الأحد، 24 مايو 2009

سماح إدريس: يا أطفال العالم تمردوا



الكاتب سماح إدريس
الكاتب سماح إدريس
عالم الأطفال هو عالم غريب عجيب لا يفهمه إلا طفل.. أو من يفهم "لغة الأطفال".. يحتاج من يلج هذا العالم أن يعرف أحلامه، وهواجسه، وألوانه وأشكاله، وتمرده وصخبه، وعنفوانه وقوته.. وإلا ضاع وسط "خضم الطفولة".

الطفل لا يحتاج أن يجد بين دفتي الكتاب مدرسا آخر كالذي تركه بالمدرسة يعظ ويرشد، وأحيانا يلوم ويؤنب، يحتاج الطفل فقط إلى "كاتب غارق في طفولته" لا يفعل معه إلا شيئين أن يلعب وأن يتمرد.

أحد الذين فكوا لغز هذا العالم هو الكاتب الدكتور سماح إدريس الذي التقته إسلام أون لاين بمناسبة حصوله على جائزة أفضل الكُتاب العرب في "أدب الأطفال"، وهي جائزة سويدية مخصصة لأفضل خمسة كتاب بلغات مختلفة من بينها العربية.

"إدريس" هو الكاتب الأوسع انتشارا في "أدب الأطفال"، وكتبه في هذا المجال هي الأكثر مبيعا في "لبنان".. إدريس الذي أثار صخبا في الحياة الثقافية اللبنانية بكتاباته التي يكتبها للكبار، أثار نفس الصخب بكتاباته التي يكتبها للأطفال.

سماح إدريس امتداد لمسار أبويه الثقافيين والأدبيين، فأبوه هو الكاتب الصحفي واللغوي والروائي والمترجم والناشر "سهيل إدريس" صاحب ومؤسس دار ومجلة "الآداب" التي نشر فيها أعلام ثقافية عربية أول إبداعاتهم، ووالدته هي الأديبة والمترجمة عايدة مطرجي إدريس القصّاصة، والناقدة، والمترجمة، والناشرة.

"سماح إدريس" في نفس الوقت ناشط سياسي؛ حيث يترأس لجنة المقاطعة اللبنانية، ولغوي شارك مع أبيه وضع معجم "المنهل"، وهو أيضا مترجم وناقد أدبي، واستلم في حياة والده رئاسة تحرير مجلة "الآداب" اللبنانية أحد مرتكزات الأدب العربي.. تلك المجلة التي قال عنها محمود درويش إنه أخذ منها "أصابعَه والشعرَ الحديث"، وعنها قال نزار قباني إنّ لها الفضلَ في تعليمي أبجديات العشق والكتابة.

* ناشط سياسي ومترجم ورئيس تحرير جريدة معروفة؛ ما الذي يدعوك للكتابة للطفل، ألا تكفي الكتابة للكبار والنخبة؟

- هناك دوافع شخصية وغير شخصية لكتابتي للأطفال؛ فلم أكن أتصور أنا القومي العربي اليساري المؤمن بالعروبة والداعي لها والمبشر بـ"الوحدة العربية" أن لا أستطيع أن أقنع ابنتي بمحبة اللغة العربية، ومن هنا قررت أن أكتب للأطفال، أدركت أهمية أن أكتب للأطفال، ما الذي سيعود علينا حينما نظل نكتب للنخبة وحدهم في الوقت الذي تظل فيه طبقة كبيرة تتربي على الكتابة الرديئة والسخيفة، وعندما تكبر تكون قد كرهت العربية بالأساس؟ لذا علينا أن نتواصل مع هذه البراعم مبكرا ونحييها بهذه المبادئ.

ولكن المهم لكي يكون ما أكتبه أدبا حقيقيا أن أضع الأيديولوجية في الخلفية، وإلا أكون قد وقعت في المطب الذي وقع فيه غيري، بمعني أن لكل كاتب رسالة، ومن يقل غير ذلك فهو كذاب، ولكن النقطة الجوهرية هنا: كيف نستطيع تحرير وكتابة هذه الرسالة؟؟ هذا هو "الأدب"، وفي النهاية أنا أكتب أدبا ولست أكتب تربية.

* متى بدأت الكتابة للأطفال؟

- بدأت في الكتابة متأخرا سنة 2004، والسبب أن ابنتيَّ لا تحبان القراءة باللغة العربية؛ لأن الكتب المكتوبة باللغة العربية غير جذابة مليئة بالمواعظ والنصائح، تستطيع أن تقول إنها مكتوبة بلغة رديئة على ورق رديء.

بينما الكتب الموجودة باللغة الإنجليزية –وطفلتاي تجيدانها لأن والدتهما أمريكية– رشيقة، ومسلية، وطباعتها جميلة، ورسومها رائعة، فضلا عن مزايا عدة لا تتواجد في كتب الأطفال العربية.

الأمر الآخر أن ابنتيَّ لم تكونا -ولا تزالان- لا تحبان الأكل، ولكي أحببهما في الطعام أحاول أن أسليهما بقصة ما عند الأكل؛ حيث أقطع الحديث فجأة عند حدث ما شيق فيها لكي تستحثاني على المواصلة، وهنا أتمنع عليهما بعدم الحكي ما لم يأكلا الطعام.

كنت أحكي لهما قصصا من "ألف ليلة وليلة"، و"آرسين لوبين" وغيرها من القصص المخزنة لدي من قراءة الطفولة والمراهقة، لكن يوما بعد يوم انتهى عندي مخزون القصص، وبدأت أحكي لهما قصصا من طفولتي كشكل من أشكال "السيرة الذاتية" قي البداية كنت أحكي السيرة الذاتية خالصة عن مغامراتي وشقاوتي في الطفولة، ثم صرت أمزج بين السيرة الذاتية والخيال، بعدها نضبت السيرة الذاتية وصرت لا أحكي إلا الخيال.

ذات يوم وكان عيد ميلادي الأربعين فوجئت بهدية طريفة من عائلتي (زوجتي وابنتيَّ) أنهم قد سجلوا عشرات القصص التي كنت أحكيها لهم، وقالوا لي: "أنت كاتب ورئيس تحرير مجلة مطبوعة، ولا ينقصك إلا أن تحول ما حكيته إلى شكل مكتوب وباللغة العربية الفصحى"، ثم أخذت زوجتي ثلاثا أو أربعا من هذه القصص وأعطتها لصديقة لها رسامة كاريكاتورية فرسمت لها رسوماتها، ثم قمت أنا بتحرير هذه القصص وأصدرت بعدها كتيبا يحوي المجموعة القصصية الأولى لي، وأنا حتى هذه اللحظة لم أقرأ شيئا في أدب الأطفال مكتوبا لأسير علي نهجه، ورغم ذلك كتبي التي أصدرتها هي أكثر الكتب مبيعا للأطفال بلبنان.

أكتب أدبا لا تربية

* وما الذي تهدف إليه من كتاباتك للطفل؟

- المعاني التي أكتبها وأقصدها في كتبي مختلفة عن ما يتم قراءته في الكتب التقليدية، فأنا مثلا لا أحث على الطاعة، بل أحث على التمرد، أحث على تربية فكر نقدي، ما أقصده أن ما يريده الطفل ليس بالضرورة أن يكون خطأ على الدوام، وإنما هي وجهة نظر تستحق أن تُناقش، كتاباتي ليست تمردا على السلطة الأبوية بقدر ما هي توجيه للطفل بأن يتخذ موقفا نقديا، وأن يشكك في حكم الأفراد -ولو كان هؤلاء الأفراد هما الأم والأب- حتى يقتنع بقولهما.

أعتبر أن معظم ما كتب في "أدب الأطفال" أدب تلقيني وأخلاقي بالمعنى السيئ، أي إنّه أدب توجيهي يكرّس فكرة المستبد العادل، ويكرّس على المدى البعيد السلطة السياسية الحاكمة والأنظمة العربية الحاكمة، ربّما لهذه الأسباب أرفض الأيديولوجية الموجّهة، وأكتب بنفس الطفل المتمرّد.

وأنا لا أكتب من أجل تقوية نفسي وإخضاع بناتي لي، وأن تراقب ابنتاي ردود أفعالي ليل نهار، الهدف هو أن تفكرا تفكيرا نقديا يسمح لهما بتكوين شخصية مستقلة عاقلة مبدعة، لا نريد أن نخلق أطفالا على شاكلتنا، أو ننتج صورا طبق الأصل منا، ولا ستنتهي تلك الصور إلى نفس النهايات التي انتهينا نحن إليها.

قصصي تطرقت للمسكوت عنه في لبنان فكتبت عن بعض المسائل الطائفية وعن العنصرية، وأنا الآن أحاول أطرق هذا الباب.. باب "المسكوت عنه"، أكتب الآن روايتان للفتيان والفتيات أتطرق فيهما للحب الأول والمشاعر الجسدية الأولى، أتحدث عن ترسبات الحروب في نفوس اللبنانيين، فالحرب أيضا من المسكوت عنه في لبنان.

ورأس المنظومة القيمية عندي بالأساس هي محاولة خلق "وعي نقدي" لدى الطفل، وأعتقد أن علينا أن نسلح الطفل بها، وليس جملة "الأكليشهيات" الموروثة التي يجب عليه أن يحفظها بدون تفكير، أريد أن يستوعب الأشياء التي يجب عليه يتعلمها، ويفكر فيها، ويقارن بين سلبياتها وإيجابياتها، وأن يأخذ في النهاية ما يقتنع به، لدينا في لبنان 18 طائفة لا أريد أن يزيدوا إلى 19 طائفة.

* بهذا الأسلوب في الكتابة، وبتلك المنهجية التي تطرحها لتعليم الأطفال التمرد على الآباء، وأن ينقد آراء المعلمين والمعلمات، ألم تقابل بهجوم من المؤسسات التربوية، وما رد فعل الآباء والأمهات على كتاباتك؟

- بالفعل حوربت محاربة عشوائية من مؤسسات تربوية، بالأساس جزء منها تنصب نفسها كأنها لجنة من الفقهاء في الأخلاق واللغة والدين، ومعظمهم معه بالكاد شهادة في "رياض الأطفال"، هم يريدون أن ينصبوا أنفسهم وعاظا وحراسا وأمناء على الطفل وتربيته.

يعني سأعطي لك مثالا: يعارضون كيف أقول في قصتي "كيف نجا الطفل بكذبته"، يتساءلون كيف لم أذكر تأنيب أو ضرب الأب له على كذبته؟ في الوقت الذي لا يفهمون فيه أن هذا الكلام في إطار قصة إبداعية ليس في إطار "كتاب عن سلوكيات الطفل"، لكن مع ذلك كتبي للأطفال هي الأكثر مبيعا في لبنان، وأطفال وأهالي كثُر يحبون ما أكتب، نعم للوهلة الأولي قد يمتنعون عن قراءة ما أكتب، لكن بعد القراءة يدركون ما أقصد، وجزء من هذا الإدراك يتمثل في أن الحقيقة ليست للطفل ولا للوالد، الحقيقة هي نتاج التعارض اللاعنفي بين الطفل وأهله.

* ألغيت جولة لتسويق بعض كتبك في إحدى دول الخليج، والسبب أن أحد الممولين الرئيسيين -وهي مدرسة خليجية- سحبت دعمها؛ بسبب أن كتبك الموجهة للأطفال "لبنانية أكثر مما ينبغي"؛ حيث تستعمل الكثير من المصطلحات "العامية"؟ ألا ترى غرابة في ذلك، وأنت معروف كأديب ومهتم بالفصحى، ومشارك في وضع معجم "المنهل" مع والدك المرحوم "سهيل إدريس"؟

- سأحكي لك شيئا حدث لي في لبنان بعد نشر قصصي، أغلب المعلمات لدينا في لبنان -على اعتبار أن أغلب العاملين في قطاع التدريس اللبناني هم من المعلمات- هاجمن تلك القصص لسببين: أولا لاحتوائها على منهج "النقد" الذي حكيت لك عنه، السبب الثاني كان لاحتواء تلك القصص على بعض الألفاظ العامية.

والحقيقة أن هؤلاء المعلمات لا يدركن أن كثيرا مما يظنونه عامية إنما هو من صميم اللغة العربية الفصحى، أو المولد من الفصحى، أو مما يسمي من الدخيل الذي صار جزءا من الفصحى، القرآن الكريم نفسه وعموم اللغة منفتحان، وفيهما من الألفاظ الدخيلة المعروفة، لذا علينا أن نهضم كل ما يدخل إلى قلب اللغة العربية، والقول المأثور يقول "كل ما نطق به العرب فهو من كلام العرب".

يعني كلمة "ساندويتش" صعب أن تعربها وتقول عليها شاطر ومشطور، كذلك من الصعوبة أن تقول على السينما "الخيالة" كما كانوا يطلقون عليها قديما والأمثلة كثيرة، فما الخطأ أن يتم استخدام كلمات نقوم بتعريبها وإدخالها "المعجم العربي"؟، أعتقد أن أفضل طريقة للتواصل مع الطفل هي التكلم معه بلغة يفهمها وتشعره بالقرب منك، وبالرغم من أن تلك معادلة صعبة، ولكن أعتقد أنها ممكنة وضرورية في كل الأحوال، فأفضل طريقة للحفاظ على الفصحى هو إقحامها ضمن ظرفيتها التاريخية، وليس حصرها في مجموعة مناهج تحفظ وتلقن بدون أن يتم فهمها.

-الحوار علي إسلام أون لاين .

ليست هناك تعليقات: