15/04/2008
-موقع قاوم
ورُبَّ دعوةٍ قطعت آلاف الأميال بمئات الدنانير خير من دعوة خاملة يحملها بعض العجزى والكسالى؛ يقول محمد أحمد الراشد في رائعته "صناعة الحياة" :"المال ينفق، ورنة الذهب قرينة هدير الواعظ من على منبر، أو هتاف المتحمس في حفلته وشارعه".
ورُبَّ دعوةٍ قطعت آلاف الأميال بمئات الدنانير خير من دعوة خاملة يحملها بعض العجزى والكسالى؛ يقول محمد أحمد الراشد في رائعته "صناعة الحياة" :"المال ينفق، ورنة الذهب قرينة هدير الواعظ من على منبر، أو هتاف المتحمس في حفلته وشارعه".
ولقد كان النبي صلي الله عليه وسلم يعلم أن قوة المال ستكون في خدمة البلد والجماعة الناشئة وفي خدمة السياسة؛ وهي السند القوي للمشروع الإسلامي فأطلق نداءه لكل الموهوبين أصحاب الفكر الاقتصادي من دعوته :"نعم المال الصالح للرجل الصالح."
------------------------------
الحقيقة التاريخية للنهوض الحضاري لا تقف فقط عند ناحية إيمانية يتم غرسها في القلوب؛ بدون واقع مادي يتم تأصيله، وتأسيسه، ووضع دعائمه، وتقعيد قواعده لبناء منظومة حضارية بشرية متكاملة يتوازى فيها الجانب العقلي المادي مع الجانب الروحي فمتطلبات المرحلة القادمة تتطلب منا أن نهيئ كوادر مؤهلة لقيادة منظومة حضارية قادرة على الابتكار والإبداع ومسايرة الزمن، ومخاطبة الآخر بلغته وعقله وهو ما فعله النبي صلي الله عليه وسلم فاستغلاله للمواهب والقدرات واللذين اعتبرهما النبي الركيزة الأساسية التي بنى عليها دولته، فهو يعلم أن عبء قيام الفكرة الجديدة إن لم يقم على رجال رواحل ذوي مقدرة وإرادة فستموت الدعوة في مهدها؛ ويعرف أنه يضع أولى لبنات دولة ستناطح بل وستهزم قوتين عظيمتين فيما بعد (الدولة الفارسية والدولة الرومانية)؛ رغم أنه كان حينها لا يزال يتقي شر أم جميل، ويدفع عنه غلواء عقبة بن أبي معيط؛ لذا فليس من المستغرب أن يرفع النبي يديه بالدعاء بأن يعز الإسلام بعمر بن الخطاب أو بعمرو بن هشام فكلاهما له من صفات القوة الشخصية والمنعة ما يقوي به البنية الأساسية للجماعة الإسلامية الناشئة فكان ما كان من إسلام عمر بن الخطاب من نصر للأمة، ورفع للأمة.
إن المجتمع الإسلامي لا يهدف قط للتحليق في السماء، والتطواف حول المنطلق الإيماني بدون إعداد قوي لدولة حقيقية لذا كان اختيار النبي صلي الله عليه وسلم لكوادر أقل ما تُوصف بأنها نجوم لبناء مجتمع أخذ على عاتقه قيام نهضة، وحضارة بشرية جديدة، فزيد بن ثابت عندما جاءه وعمره سبعة عشر عامًا؛ وكان يحفظ ست عشرة سورة قرأها على النبي صلي الله عليه وسلم لم يجلسه بعدها الرسول في عريش بجوار المسجد النبوي يُحفظ الصحابة؛ أو يلقنهم الآيات، كما فعل مع بعض الصحابة، بل أعطى كل شخص من الصحابة مهمَّته!!
لقد رأى الرسول معاهدات تُوقَّع، واتفاقيات تُعقد وبلاد مجاورة سُيوجه إليها دعوة الإسلام تنطق بلغة غير لغة القرآن فوجه النبي زيدًا لتعلم لغة اليهود فتعلمها وحذق بعدها- رضي الله عنه- الفارسية والرومية والقبطية والحبشية والسريانية لُّيكون أول قاعدة للترجمة في الدولة الإسلامية الوليدة.
وفي الجانب العلمي والثقافي توظيف النبي لعبد الله بن مسعود والذي رأي عليه أمارات النبوغ المبكرة عندما لقبه بـ"الغلام المعلم" فحفظ القرآن، واستظهر آياته؛ حتى عُد من أحفظ الصحابة وأقرأهم؛ حتى قال فيه النبي الكريم :"من كان قارئاً للقرآن فليقرأ على قراءة ابن أُم عبد " ولم يتركه النبي رُويعيًّا للغنم، أو حالبًا للشياه ليُكون هو وأبو الدرداء وأُبي بن كعب، وزيد بن ثابت نواة أول معهد لعلوم القرآن.
ولم يُعط الرسول الفرصة لخصوم الإسلام وأعدائه أن يضيقوا الخناق الاقتصادي على المدينة؛ بل بادر بإنشاء كيان اقتصادي ليكن سندًا وظهرًا لدعوة يُنفق في وأدها وإماتتها آلاف الدنانير، ومئات القناطير من الذهب والفضة فوضع عمودًا من الخشب في قطعة أرض لبني النجار وقال: "هذا سوقكم يا بني عوف..." فسبق إلى السوق أُناس عرفوا أن القوة المادية هي عصب الدولة، وقوام الحياة وهي رأس الحربة في مُقارعة الخصوم الذين حيزت لهم الدنيا بحذافيرها؛ فسبق عبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان وسعد بن أبي وقاص وغيرهم وكان تأثير الواحد فيهم في إقامة الدولة بفضل مواهبهم وقدراتهم أعظم من كل رجال "أهل الُصفة" وما أشد فرحة "عثمان بن عفان" رضي الله عنه بقول النبي صلي الله عليه وسلم عندما جهز نصف جيش بأكمله بعُدته وعتاده: "ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم، عثمان في الجنة، عثمان في الجنة.."
ورُبَّ دعوةٍ قطعت آلاف الأميال بمئات الدنانير خير من دعوة خاملة يحملها بعض العجزى والكسالى؛ يقول محمد أحمد الراشد في رائعته " صناعة الحياة " : "المال ينفق، ورنة الذهب قرينة هدير الواعظ من على منبر، أو هتاف المتحمس في حفلته وشارعه".
كان النبي صلي الله عليه وسلم يعلم أن القوة المال ستكون في خدمة البلد والجماعة الناشئة وفي خدمة السياسة؛ وهي السند القوي للمشروع الإسلامي فأطلق نداءه لكل الموهوبين أصحاب الفكر الاقتصادي من دعوته" نعم المال الصالح للرجل الصالح."
أما على الجانب العسكري ففي الوقت الذي قُضيت فيه على الحركات الكشفية؛ وأُلغيت المناهج العسكرية التي كانت تُدرس قديمًا في مناهج التعليم؛ ليتم في النهاية تفريخ شبيبة ضعيفة ممسوخة الهوية، ونُكبت الشعوب الإسلامية والعربية بهزائم متلاحقة المرة تلو الأخرى لاعتمادهم على غيرهم في سلاح يذودون به عن أنفسهم؛ فأعطاهم الغرب والشرق ما غلا ثمنه، وقلت منفعته، أو لوضع أشباه من الرجال (بدءًا من عبد الحكيم عامر مرورًا بالعماد مصطفى طلاس والقائمة طويلة) على رأس جيوش أُعتمد عليها في الأغلب لقمع الشعوب، وتأصيل الاستبداد وتحويل البلد إلى ثكنة عسكرية؛ وبعدها ينقلب السحر على الساحر لُتصبح تلك الجيوش المسمار الأخير في نعش كل طاغية، وما الانقلابات العسكرية، أو انسحاب الجيوش (كالعراق مثلاً) عنا ببعيد.
لقد اعتمد النبي الكريم على رجال لم يكن لهم سبق إيمان، أو ابتداء بالنصرة، أو كبر في السن على رأس جيوشه وسراياه بل كانت الأولوية لرجال ضرستهم الحروب وخبروها، فأعطى القيادة إما لصاحب مهارة وموهبة؛ حتى ولو كان صغير السن كأُسامة بن زيد الذي لم يتعد عمرهُ حينها سبعة عشر عامًا الذي قاد جيشًا يحوي كبار الصحابة، وقد قال النبي صلي الله عليه وسلم: "إنه لخليق بالإمارة كما أن أباه كان خليقًا بها...."
وإما لرجلين لم يبرحا أن طرحا ثوب الكفر عن كاهليهما حديثًا وهما خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص؛ غير أنهما خالد وعمرو وهما من هما في إدارة المعارك، وقيادة الجيوش؛ فعرف النبي صلي الله عليه وسلم قدرهما، وخبر موهبتهما رغم تأخر إسلامهما، فوظفهما خير توظيف فملآ السمع والبصر، وفي بضع سنين فتحًا من العراق ومصر والشام ما لم يُفتح لغيرهما...
وضع النبي منهجًا عسكريًّا تربى عليه صغار الشباب قبل الرجال:"ارموا بني إسماعيل فإن أباكم كان راميًا" و: "من تعلم الرمي ثم تركه فليس منا.."
وليس من الأمانة أن يُوسد الأمر لغير أهله؛ فاستوزر لحربه مُصعب بن عمير، وعلي بن أبي طالب، والمقداد بن الأسود، وخالد بن الوليد وعمرو بن العاص، وأرسل المقداد والزبير إلى اليمن فتعلما صنع آلات الحرب، واختار من أصحابه من أصحاب الرأي والمشورة "هيئة قيادة عُليا" يُشيرون عليه بالرأي، ويُسدون إليه النصيحة، وكان منهم أبو بكر وعمر والحباب وسعد بن عُبادة وسعد بن مُعاذ، وما كان لفارس أن تدين لأصحابه بالطاعة، وتُسلم الروم بالهزيمة لو لم يبن النبي المجتمع الأول على كوادر وقيادات فحق أن يُسمى هذا المجتمع بـ"مجتمع الرواحل".
أما في نواحي الفن والإبداع فقد أدرك النبي أن هذا الجانب بالذات يفعل في النفوس ما لا تقدر على فعله عشرات الخطب ومئات الكتب كوسائل للرقي بالنفس، والسمو بالروح وتجييش الشعوب، وتعبئتها معنويًّا
فأبرز من بين أصحابه من وُجه لخدمة الدعوة بشعره، أو بغنائه فبرز في هذا المجال سلمة بن الأكوع، وعبد الله بن رواحة، وحسان بن ثابت، وكلهم ترنم النبي هو وأصحابه بأشعارهم وكلماتهم، واستخدم النبي حسان بن ثابت، وعبد الله بن رواحة كوسيلة لما يُسمى في عصرنا الحديث بـ"الدعاية السوداء" ضد المشركين من تسفيه لأحلامهم، وتعييب لآلهتهم، وتنديد بما يعبدون بما يفعل في النفوس فعلها من ضرب للثوابت والمعتقد الذي يعتقدونه، ويبذلون المهج والأنفس في الدفاع من أجله، وما أجمل وصف النبي صلي الله عليه وسلم لهذا الدور حيث يقول لحسان: "اُهجهم وروح القدس معك" وقوله أيضًا): "والله إن لكلماتك أشد عليهم من نضح النبل" فوظف النبي الكريم المهارة والمادة الخام من أصحابه لمساندة الدعوة، ونصرة القضية.
وفي ذلك يقول أبو الحسن الندوي في كتابه القيم "ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين ": "استطاع النبي برؤيته الدقيقة، وشخصيته الفذة، وبفضل هذا الكتاب السماوي المعجز أن يبعث الإنسانية المتحضرة حياة جديدة ، عمد إلى الذخائر البشرية وهي أكداس من المواد الخام لا يعرف أحد غناءها، ولا يعرف محلها، وقد أضاعتها الجاهلية والكفر والإخلاد إلى الأرض فأوجد فيها بإذن الله الإيمان والعقيدة وبعث فيها الروح الجديدة، وأثار من دفائنها، وأشعل مواهبها، ثم وضع كل واحدٍ في محله فكأنما خُلق له، وكأنما كان المكان شاغرًا لم يزل ينتظره، ويتطلع إليه، وكأنما كان جمادًا فتحول جسمًا ناميًّا، وإنسانًا متصرفًا، وكأنما كان ميتًا لا يتحرك فعاد حيًّا يُملي على العالم إرادته، وكأنما كان أعمى لا يُبصر الطريق فأصبح قائدًا بصيرًا يقود العالم، عمد إلى الأُمة الضائعة، وإلى أُناس من غيرها فما لبث العالم أن رأى منهم نوابغ كانوا من عجائب الدهر وسوانح التاريخ". ا.ه
هذا في الوقت الذي تردت فيه الأُمة وهوت ليس فقط تحت ضربات المستعمر التي طالما جعلناها تُكأة نتكئ عليها لسد عوار فقرنا وتخلفنا، وإنما تحت ضربات الجهل والعفن التي لحقت بأُمتنا؛ ثم بوأد الكفاءات وأصحاب العقول والمواهب بدءًا من طالب الاقتصاد والعلوم السياسية الذي انتحر لأنه لم يحصل على وظيفته لعدم لياقته الاجتماعية؛ حتى هجرة العلماء المبدعين من القرية الظالم أهلها، والتي وُسد فيها الأمر إما لفاسد أو جاهل، أو مستبد انطبعت صورتهم على البلد الذي نعيش فيه، فعلمت عندها لماذا يحمل البعض عصاه ثم يبصقون على الوطن ويرحلون!!
هناك تعليق واحد:
قرأته
جميل جداً
جزاك الله خيراً
إرسال تعليق