الجمعة، 22 مايو 2009

هجرة العقول من الإخوان..التجمد في الداخل أو التسلل إلي الخارج

عند متابعة واقع جماعة الإخوان المسلمين، تطل علينا ظاهرة ندرة الرموز الثقافية والفكرية واستعاضة الجماعة عن ذلك، بالاستعانة بمفكرين من خارجها، نتيجة للجدب الثقافي والفكري الموجود بالتنظيم الإخواني، فقطاع المثقفين والمفكرين الإسلاميين الذين تستشهد بأقوالهم الجماعة اليوم في أدبياتها وخطاباتها أو المتحدثين على المنصة، هم من خارجها، أو محسوبين عليها وليسوا فعليا من التنظيم.

في البداية، ربما يتم إرجاع تلك الظاهرة لطبيعة التنظيمات على العموم، التي لا تقبل في كثير من الأحيان شخصيات من نوعية المفكر والمبدع والأديب، تلك الشخصيات العصية على الانقياد، والملازم لشخصيتها دائما التمرد واستحداث أفكار جديدة وأطروحات غير تقليدية، والتنظيم غالبا هو ابن الفكرة الواحدة، لذا يصعب تذويب أفراد تحمل هذه السمات في قالب تنظيمي أو حركي، خصوصا التنظيمات التي تحمل طابعا حركياً وسرية شديدة.

لكن عند النظر لجماعة الإخوان المسلمين في بداية وجودها، مرورا بفترة إزدهارها في فترة الثلاثينات والأربعينات من القرن العشرين حتى قيام الثورة، نلاحظ وجود أعلام ورموز فكرية داخل الحركة، بدءا بالبنا وعبد القادر عودة وحسن الهضيبي وتوفيق الشهاوي، وليس انتهاء بالصغار الكبار ( الغزالي والقرضاوي والعسال وجمال الدين عطية وسيد سابق وعبد الحليم أبو شُقة).. والمجموعة الأخيرة بالذات، كانت هي نواة وقاعدة العمل الفكري الإسلامي فيما بعد، كل ذلك يشير إلى أن الجماعة كانت ـ حينها ـ منفتحة وتستوعب شخصيات بهذا الثقل الفكري والثقافي

لكن بعد الظهور والبناء الثاني لجماعة الإخوان المسلمين، خصوصا بعد تولية الأستاذ "مصطفي مشهور" مكتب الإرشاد، استفحلت تلك الظاهرة، وهي عملية تسرب العقول في الجماعة الإخوانية وهجرتها، سواء كان هذا التسرب خارجيا (يبرز في الأسماء اللامعة الكبيرة)، أو في الهجرة الداخلية، وأعني به تجميد بعض الأعضاء- ذوي الكفاءة- لأنفسهم، ليبقوا مرتبطين بالجماعة إرتباطا عاطفيا، نتيجة تجذر اجتماعي، أو عاطفي، أو اقتصادي، وفصل المشروع الذاتي لهم عن المشروع الجماعي لتبقي المشكلة قائمة وملموسة، نبه إليها وظهرت في كتابات ودراسات محايدة لباحثين يهتمون بالحركات الإسلامية.

فالكل يذكر للشيخ يوسف القرضاوي في ملتقي الأصحاب والتلاميذ، قولته: "أخشى على الحركة الإسلامية أن تضيق بالمفكرين الأحرار من أبنائها، وأن تغلق النوافذ في وجه التجديد والاجتهاد، وتقف عند لون واحد من التفكير لا تقبل وجهة نظر أخرى، تحمل رأيا مخالفا في ترتيب الأهداف أو تحديد الوسائل".

الشيخ محمد الغزالي طلب من الإمام البنا الالتحاق بالتنظيم الخاص، لكن البنا رفض هذا الطلب من الشيخ النابغة، لعدم ملاءمة التنظيم الخاص مع الطبيعة الشخصية للشيخ الغزالي، والتنظيم الخاص حينها هو تشكيل عسكري بحت، يقوده شاب في منتصف العشرينات من عمره، ولم يحصل علي قدر جيد من التعليم، وهو "عبد الرحمن السندي".

رفض البنا إلحاق الغزالي بالتنظيم الخاص، حيث يبقى للأخير سمات التشكيل العسكري، الذي يستلزم القرار الآني واللحظي والثقة التامة في القيادة والسمع والطاعة الفورية، وروح الاستعداد على الدوام، وسمات الملتحقين به هي سمات عسكرية بحته، تختلف تماماً عن الأفراد العاملين في تنظيم إصلاحي مدني يحتوي أفراداً مدنيين.

لذا فوجود تنظيم عام كبير موازي ومفتوح، يقوده رجل يحمل عقلا سياسيا، بحجم البنا، كان من البديهي أن توجد ـ حينها ـ رموز جيدة في الجماعة بهذا الثقل…!!

لكن ما جرى للإخوان، خصوصا في مرحلة ما بعد الصدامات الخمسينية والستينية، فرض على الجماعة خيار تحويلها من جماعة تنظيمية منفتحة إلى جماعة تنظيمية اصطفائية منغلقة، وقد أحدث هذا شرخاً كبيرًا، تسربت منه العقول نهائياً إلى خارج الجماعة، لتنأى بنفسها عن الاصطدام بشكل تنظيمي أصبح عبئاً عليها، وإن كانت تلك العقول ما تزال مؤمنه بالمنهج الفكري للجماعة .

الأستاذ فتحي يكن، يرى أن النهج الذي اعتمده البنا رحمه الله في بناء الجماعة كان يجمع بين الاصطفائية والجماهيرية، ولكن مرورًا بالتنظيم، فلم يكن اصطفائيًا بلا حدود، ولا جماهيريًا بلا قيود، إلا أن استشهاد البنا قبل اكتمال المشروع التغييري للحركة، ثم تعرّض الحركة من بعده لمحن ضارية تفوق كل وصف، أوغل بها في عمق الاصطفائية، بل جعلها اصطفائية بلا حدود، وبخاصة في بلد المنشأ.

ويرى الأستاذ فتحي يكن أن أهم الأسباب التي حولت مسار الجماعة بهذا الشكل، هو الفكر الذي طرحه الشهيد سيد قطب، الذي ترك الأثر الأكبر في دفع الحركة الإسلامية باتجاه النهج الاصطفائي في الستينيات، وهو منهج في حينه كانت له مبرراته وأسبابه.!

فالصراع الذي واجه الحركة حينها، كان صراعا "مؤدلجا" و"استقصائيا"، استلزم وجود "فكر التترس"، الذي أنتجته تلك المرحلة، لكن أن يتحول فقه الاستثناء، وهو لمرحلة بعينها، وهي مرحلة الصراع الدامي الذي واجهته الحركة حينها وردة فعلٍ نفسيةٍ على الظروف القاسية، وضراوة التحدي والاضطهاد الذي واجهته الحركة الإسلامية، وواجهه أصحابها حينها، إلى فقه أصلي تتبناه الحركة، ويبني عليه هيكلها التنظيمي، فهذا ردة عن مبادئ وفهم وفكر الإمام البنا.

وبالرغم من المحاولات التي بُذلت لإعادة الأمور إلى نصابها، والتذكير بالثوابت التي تركها البنا، إلا أنه للأسف تراجع التيار المجسد فعليا لفكر الإمام البنا، لصالح الحركة الفكرية الجديدة التي تأثرت بالمحن في السجون وبفكر الشهيد سيد قطب، وهي مجموعة 65، مع مجموعة موازية أخري تؤمن بالمنهج الإصطفائي، كوسيلة أساسية للحفاظ على التنظيم، وهي مجموعة "النظام الخاص"، التي تأثرت أكثر بالفترة الطويلة التي عاشتها في السجون، فضلا عن أن أساليب انتقائهم ودخولهم النظام الخاص، كانت تعتمد بشكل أساسي على هذا النهج (النهج الاصطفائي)، فتأثرت الجماعة تنظيميا بهاتين المجموعتين، اللتين احتضنتا الإحياء الثاني للجماعة، خصوصا في الفترة التي أعقبت وفاة المرشد حسن الهضيبي في أواخر عام 1973م ..

معاناة العقول بين قبول التنميط أو الإقصاء

مسارات الصعود والترقي في تدرج الأخ داخل الجماعة، حازمة جدا في استبعاد مالا تنطبق عليه شروط معينة، أبرزها مبدأي السمع والطاعة، والثقة التامة في القيادة، سواء كانت تلك القيادة واعية، أو متخلفة لا تفهم.

فلابد أن يكون الأخ منفذاً بشكل جيد، ليس المهم تم العمل أو لا المهم هو تنفيذ الأخ لما يؤمر به، والمبادرات الذاتية أو بذل الوسع في التفكير، هو "مجاوزة الطاعة" وعدم الاستجابة أو عدم الاقتناع الكافي بما يملي عليه.

كل ذلك في النهاية كان تطبيق مشوه لرسالة التعاليم، التي كانت أشبه بمنهج فكري للنظام الخاص، وليست مطبقة على "النظام العام" للجماعة في أيام البنا، وبدأ تطبيقها على الجماعة ككل في منتصف الثمانينات، أثناء إعادة هيكلة الجماعة عليها، ليتم عسكرة الجماعة بشكل كامل..!!

وتبدأ عجلة تنميط الأفراد وإنتاجهم بنفس الشكل ونفس النسخة، كأنها آلة طباعة، ويتم فرز الأصناف التي تحمل طابعا مخالفا، ليتم إبعادها أو تهميشها، بدعوى حملها صفات غير مرغوب فيها …!!!

الآثار السلبية للتنميط ومنع التعددية الفكرية

لذا يصعب وجود عقلية قادرة على التغيير أو الإصلاح، لأسباب عدة، منها أنه يحمل طابعاً مخالفاً، يتبنى خطابا غير مقبول، طالما لم يتم نزوله من "فوق" (يتم الإشارة دائما للمكاتب الإدارية والمناطق ومكاتب الإرشاد بالمقولة المشهورة "من فوق")، ويتم تجميده تربوياً وتنظيمياً، حتى لا يحدث بلبلة في الصف، لأنه من وجهة نظر الإخوة المربين -آنصاف الآلهة- أنه يقوم بعملية "غسيل دماغ" منهجية للأفراد الأقل في المستوى، وكذلك، لا يحمل سمت الإخوة العاديين كالسمع والطاعة، والتباهي دائما بالموروث التقليدي للجماعة أو منابرها الإعلامية والثقافية، كموقع إخوان أون لاين أو جريدة آفاق عربية -طبعاً قبل إيقافها-.لذا فلكي يتجاوز هذا الأخ الصراع النفسي، الذي زجه فيه مربوه، عليه أن يتأقلم مع الواقع المحيط به، لأنه يشعر داخليا بعقدة الذنب، لأنه يرى دائما في نفسه، أنه لا يحمل نفس طبعة إخوانه، فيلعن اليوم الذي بدأ يفكر فيه، ويبدأ في عملية (التماهي) مع البيئة ومحاولة دراسة سمات إخوانه بشكل كبير للتطابق مع القالب حتى يتم تصعيده، وبعدها يحدث الأثر فتذبل طاقته ويتحول لنفس النمط المطلوب.!!


وفي ظل عدم وجود تنظيم مماثل، يحمل فكرة الشمولية الإسلامية، أو كيان آخر يشعر المرء فيه (بالأمن الاجتماعي)، نتيجة وجوده بين إخوانه وأصحابه، الذين لم يعرف غيرهم، أو (الارتباط العاطفي) بالجماعة، فهي حركة كبرى موجودة في كل البلدان الإسلامية، تحمل شعارات مبهرة براقة، وامتداد لحركات إسلامية منتصرة هنا وهناك، أو (تجذر اقتصادي)، نتيجة لعمله في شركة إخوانية أو ارتباطات مالية كثيرة مع الإخوة.!!

لذا يصعب على المرء فقدان هذه البيئة، فإن الفرد صاحب العقلية الجيدة، يستسلم للسلبية، وانطفاء الفعالية هي رد الفعل الطبيعي له ولأمثاله، ويختزل المشروع الإخواني عنده إلى أسرة، يرى فيها المرء إخوانه أسبوعيا في أسرة أو شهريا في كتيبة، فيفقد الانتماء حيويته، ويتحول إلى عادة.

وتنسحب الشخصيات ذات المشاريع الكبيرة ـ غالبا الفكرية والثقافية ـ لأنها ترى في هذا الشكل التنظيمي المترهل شكلاً من أشكال ضياع الأوقات والذوبان غير المحمود…!!

الإدراك المبكر للأزمة بين المشروع الفكري والمشروع الحركي

لعل إدراك أزمة تزايد الحفاوة بالمشروع الحركي على حساب المشروع الثقافي والفكري، جاء مبكراً، ففي أيام البنا، وصل عدد أعضاء الجماعة المسجلين، والتي كانت مفتوحة حينها، أكثر من المليون، وهو رقم ضخم قياسا بعدد سكان مصر حينها، لكن ذلك تزمن مع عدم وجود بناء ثقافي وفكري وأوعية استيعابية فكرية وثقافية لهذا العدد الضخم، تتولى توعية الحركة وترشيدها، أو معالجة الأخطاء، أو تقديم أطروحات فكرية ترعي الواقع السياسي والفكري والاجتماعي حينها.

وهذه المشكلة أدركها بعض أعضاء الجماعة من الأسماء اللامعة فكريا فيما بعد، وهم من سموا بجماعة المشروع، يقول الأستاذ حسام تمام: "بالنسبة لـ"جماعة المشروع"، التي تكونت عام 1948م من مجموعة من الشباب الإخوان المثقف والمهتم بالفكر، الذين أقلقهم الخوف من هيمنة العمل المسلح وسيطرة النظام الخاص على الجماعة.

فاتجهوا إلى وضع نواة ما اعتبروه أول حركة تجديد فكري داخل التنظيم، بتوجيه من مؤسسها الشيخ حسن البنا، وبرعاية من د. عبد العزيز كامل، الذي كان من أبرز رموز الجماعة والمقربين من المرشد، قبل أن يخرج منها لاحقا، ويتولى وزارة الأوقاف في ثورة يوليو، وكانت الفكرة، أن تتفرغ المجموعة لتلقى تكوينا ثقافياً وفكرياً معمقاً من خارج التنظيم على أيدي رموز من مختلف التيارات، أيا كان موقفها من الإخوان المسلمين، فذهبوا إلى عباس العقاد ومحمود شاكر وغيرهما، ومن أسماء هؤلاء الشباب: جمال الدين عطية وعبد العظيم الديب ومحمود أبو السعود وعبد الحليم أبو شقة وفتحي عثمان".

ولكن للأسف لم تؤت المجموعة ما كان ينتظر منها وقتها، فقد اغتيل الإمام البنا في فبراير 1949م، وكان الداعم لها والمتفهم لأهميتها، كما جرت تحولات في مصر وفي الجماعة، دفعت بالأخيرة إلى الدخول في نفق المواجهة مع النظام، ثم العمل السري، خاصة بعد الصدام مع ثورة يوليو وهو ما أثر علي المزاج الحركي للجماعة وقلص من مساحة الفكر والثقافة داخلها!

التبرير بالقلة وعدم الأهلية

الملاحظ دائماً أنك عندما تتحدث عن هؤلاء الذين خرجوا أو تم إخراجهم، تُقابل بتبريرين: أولهما، أن الذين خرجوا قلة لا تُعد على أصابع اليد الواحدة، ثانيهما، رميه بكل التهم المعروفة والمحفوظة عند مسئولي التربية -ذوي الحصانة- كشكل من أشكال الترهيب المعنوي والنفسي لمن خرج من الإخوان، ففي نظرهم أن من خرج من الدعوة - يتم استخدام مصطلح الخروج من الدعوة وليس من الجماعة- هم متساقطون على طريق الدعوة، إما لخوف أو لضعف وكسل وعدم تحمل لأعباء الطريق، في مخالفات صريحة لفكر الإمام البنا ومنهجه.

وتبقى الحياة السياسية الموءودة والوضع السياسي المصري بشكل عام وعدم وجود كيانات سياسية قوية ومؤثرة ومتماسكة، أحد الأسباب الهامة لعدم استيعاب تلك العقول الجيدة التي تخرج من الجماعة، أو سبب رئيس في تردد البعض من المجمدين في الخروج من الجماعة..

لمتابعة النص الأصلي للموضوع يرجي مراجعته علي الروابط الأتية :-

1-جريدة العصر

2-موقع المصريون

3-جريدة الغد الأردنية

4-جريدة القاهرة

5- ملتقي الإخوان

ليست هناك تعليقات: