الجمعة، 22 مايو 2009

الصحافة الثقافية في مصر ..التأميم ولقمة العيش


أحمد عبد الحميد،هدى فايق


Image
الكاتب الصحفي صلاح عيسى

شهدت الصحافة الثقافية في مصر في النصف الأول من القرن العشرين رواجا كبيرا؛ إذ ظهرت مجموعة من المجلات الثقافية الهامة التي ساهمت في تشكيل ملامح الفكر الذي ساد مصر في القرن العشرين مثل: "الرسالة"، و"المقتطف"، و"أنيس الجليس"، و"الثقافة"، لكن التأميم الذي حول الصحف إلى مؤسسات حكومية أثر على مستوى الأداء الصحفي، وقصر النشر على الأقلام التي ترضى عنها السلطة، فخفت نجم الصحافة الثقافية، وفرت الأقلام الفاعلة إلى خارج الحدود.

وعلى الرغم من أن الصحافة الثقافية التي نشأت على يد مفكرين وكتاب أثروا في الجوانب الفكرية والثقافية لجيل كامل تربى على مقالاتهم، إلا أنها سقطت اليوم في ظل معطيات السوق التي تعلي من قيمة المواد الصحفية ذات المضمون الترفيهي لتختفي على أثر ذلك الصحافة التثقيفية، إن جاز التعبير، فقد بات المشهد -رغم الزيادة الملحوظة في نسبة الصحف ذات الإصدار الخاص والتي لاقت رواجا جماهيريا، وحركت المياه الراكدة في الوسط الإعلامي- ذا ملامح ثقافية باهتة، فيما عدا إصدار وزارة الثقافة المتمثل في جريدة "القاهرة" الأسبوعية، وإصدار دار أخبار اليوم المتمثل في جريدة أدبية ذات ميول ثقافية متشعبة وهي "أخبار الأدب"، وكلتاهما تبدوان بعيدتين نسبيا عن المثقف العادي، وإن كانت "أخبار الأدب" أكثر انتشارا وحضورا وتنوعا.

إمكانيات

يبدو الأمر مجرد انعكاس مباشر لسيطرة التلفزيون، وتراجع الصحافة بوجه عام، خصوصا مع ظهور وسيط الإنترنت الذي سحب البساط بشكل ملحوظ من تحت وسائل الإعلام التقليدية، لكن ليس هذا كل شيء؛ حيث يرى دكتور محمود خليل -أستاذ الصحافة بجامعة القاهرة- أن الفن المصري باعتباره رافدا هاما للتثقيف يعمل على بناء أرضية تساعد على وجود مكان للكتاب والجريدة، وصار الآن معظمه يدخل في نطاق التفاهات وأعمال المقاولات، ولم نعد نرى اليوم فنا مصريا كالفن القديم الذي كان يعتمد في المسرح والسينما والإذاعة على إبداعات محفوظ، وتوفيق الحكيم، والشرقاوي، وإدريس، وعبد القدوس، وعلى هذا فماذا ستقدم هذه الجرائد في حال وجودها ؟

فيما يرجع الكاتب ممدوح الشيخ الأمر إلى الإمكانيات المادية التي تواجه الصحافة بشكل عام والمكافآت المحدودة جدا التي توزع على كتاب الجريدة أو المجلة الثقافية، ومحدودية التوزيع، لها أمور تعطل من ظهور صحف ثقافية في مصر، عاقدا مقارنة بسيطة بين مجلة "العربي" ذات الإمكانيات الضخمة المعروفة، ومجلة مثل مجلة "الهلال" التي يفترض أن تكون المجلة المصرية الثقافية الأولى حتى وقت قريب كانت تعطي مكافآت لكبار الكتاب المصريين 17 جنيها مصريا للمقال الواحد (حوالي 3 دولارات أمريكية) وهي مجلة يكتب فيها نخبة النخبة المثقفة في مصر.!!

الكاتب ممدوح الشيخ

مشيرا إلى أن البيئة تؤثر بشكل أساسي في نوعية وسائل الإعلام الموجودة في إطارها؛ فالصحف المستقلة نشأت في إطار الصراع السياسي وليس في إطار رؤية ثقافية لتحديث المجتمع أو تطويره، كذلك كانت دائما الصحف ذات الصبغة السياسية هي الأعلى صوتا، ولم يفكر أحد في إصدار جريدة أو مجلة ذات صبغة ثقافية متزنة، ربما باستثناء مجلة (سطور)، صدرت وكان أداؤها أكثر من جيد، ملمحا لكون الاستبداد السياسي أدى لتحول مزاجي عند الشريحة القارئة في مصر، في شكل يميل إلى الاهتمام بكل ما يناقش الشأن السياسي أو ما يدعو للتغيير

وذات النقطة دار حولها دكتور محمود خليل الذي ألقى باللائمة على الجمهور المصري الذي يعاني من آفتين هما: التسطح الثقافي، والبحث الدائم عن لقمة العيش، اللتان تدفعان الجمهور إلى البحث عن وسيلة ترفيه، وليس الاهتمام بقضايا ثقافية لا يرى فيها الفرد المطحون أن لها صلة بأعباء حياته، ولهذا يقبل الجمهور بدرجة أكبر على الصحف التي تنشر مواد خفيفة كالرياضة، والحوادث، والفن.

وأرجع سيد محمود -مشرف الصفحة الثقافية في جريدة البديل المستقلة- أن الانتكاسة التي تعاني منها الصحافة الثقافية في مصر اليوم يعود سببها إلى أن الظروف السياسية في بداية السبعينيات أدت إلى أن تخوض الدولة مواجهات مع المثقفين، أسفر عنها إغلاق المجلات الثقافية، وأوكلت قيادة الصحف لمجموعة من اليمين السياسي أمثال يوسف السباعي، وأنيس منصور، الذين حولوا المطبوعات الصحفية إلى نوعية أقرب إلى صحافة المنوعات، فهاجرت مجموعة من الكوادر الصحفية ومجموعة من المثقفين الجيدين إلى دول الخليج والدول الأوروبية، وتم تفريغ المؤسسات الصحفية بالكامل.

وأضاف محمود أن هذه الكوادر أعطت جهدها للدول العربية، فظهرت التجارب الثقافية العربية الجيدة على أكتاف مثقفين مصريين مثل مجلة "الدوحة" القطرية وكان على رأسها رجاء النقاش، وظهرت مجلة "العربي" الكويتية وترأس تحريرها أحمد بهاء الدين، وظهرت مجلة "اليوم السابع" في الثمانينيات، ومجلة "الثقافة العالمية"، و"عالم الفكر" الكويتية التي ترأسها الدكتور أحمد أبو زيد، فيما فرغت الصحافة المصرية من قواعدها.

وأوضح محمود الخط البياني الذي مرت به الصحافة الثقافية في مصر بعد ذلك مع بداية التسعينيات؛ حيث ظهرت صحافة ثقافية جيدة مثل مجلة إبداع، وفصول، وجريدة القاهرة، وكانت البداية قوية جدا، وكانت تلك الصحف تحصل على دعم الدولة بشكل كبير، خصوصا أن هذه المؤسسات الثقافية ساندت الدولة في معاركها ضد الإسلاميين، فلما انحسرت حدة المواجهة بين الإسلاميين والدولة بدأت الدولة تحاصر الصحافة والمؤسسات الثقافية في الطبع والتوزيع والمكافآت التي تعطيها للكتاب، وبدأت هجرة ثانية للكتاب والمثقفين والصحفيين أفرزت صحفا عربية جيدة كالحياة اللندنية، والشرق الوسط، والقدس العربي.

الثقافة بلا جمهور

غير أن صلاح عيسى رئيس تحرير جريدة القاهرة أرجع الأمر كله للخصائص الإنتاجية للصحيفة كوسيلة إعلامية، فيوضح أن الصحف الخاصة هي مشاريع تجارية بالأساس، وصاحبها يضع فيها أموالا يتوقع أن ترد إليه بمكاسب في أقل وقت ممكن (أو على الأقل ترد إليه كما هي إن كان صاحب رسالة ما).

وألقى عيسى باللوم على طبيعة المطبوعة الثقافية التي يراها مطبوعة خاسرة من الناحية الاقتصادية؛ لأنها لا توزع بالقدر الكافي من النسخ بحيث تغري المعلن بالإعلان فيها، لذا لكي تنجح المؤسسة الثقافية لابد أن يكون هناك دور إما من الدولة في الأساس، وإما من رجال أعمال، أو من مؤسسات معينة كدور نشر وطباعة مثلا، ضاربا المثل بمجلة الرسالة التي ازدهرت في منتصف القرن العشرين، فلم تكن مشروعا مربحا وإنما كانت تعتمد أساسا في تمويلها على أربع أو ست صفحات (إعلانات قضائية) كانت تقررها لها وزارة الحقانية حينها، فضلا عن أنها كانت تعتمد على اشتراكات وزارات كوزارة المعارف مثلا.

وعلى العكس من ذلك جاءت وجهة نظر نائل الطوخي -صحفي بأخبار الأدب- الذي يرى أن هناك حركة انتعاش في الفترة الأخيرة، خصوصا أنه بعد 15 سنة ظلت فيها أخبار الأدب وحدها كجريدة ثقافية متخصصة توزع على مستوى العالم العربي ظهرت الآن أماكن أخري تقوم بدور تكميلي، تقدمفيها بعض الصحف صفحات ثقافية متخصصة ومتميزة وأيده في ذلك محمد صلاح العزب الذي يرى جريدة أخبار الأدب وصفحة الثقافة في البديل ضوءا في آخر النفق؛ حيث تفهم الأولى جمهورها وتعرف كيف تخاطبه، فيما تنجح الأخرى في الربط بين الجمهور العادي والثقافة دون أن تفقد اهتمام المثقفين.

الصحفي نائل الطوخي

وعلى نفس الموجة كان سيد محمود الذي أعلن بظهور الصفحات المتخصصة في الصحف اليومية المستقلة وفاة الصحف القومية؛ نظرا لأنها لا تنتصر للموهوبين بقدر ما تنتصر للمجاملة والبيروقراطية.

آفات الصحافة

على الرغم من إجماع الصحفيين والأكاديميين على عدم وجود بيئة ملائمة من حيث الظروف السياسية والاقتصادية تلائم وجود صحافة ثقافية، إلا أن منهم من صدر مشكلات الصحافة أو نقل آفاتها إلى الصحافة الثقافية؛ إذ يرى ممدوح الشيخ مشكلة أساسية هي الشللية التي تفقد الصحافة حرفيتها.

وربما تكون هي ذاتها التي عبر عنها نائل الطوخي بطريقة أخرى؛ إذ يرى أن الصحفي بطبيعة الحال هو طرف في الصراعات الثقافية؛ لأنه مبدع في نفس الوقت، وهو ما يخلق صورة عن كون كل ما يكتبه في حق زملائه المبدعين شهادة مجروحة، والقارئ سواء كان مجرد قارئ عادي أو مثقفا يكون لديه شك دائم في نوايا الكاتب من وراء مقاله النقدي أو حواره مع أحد زملائه.

فيما يرى الدكتور خليل أن أهم العوائق التي تقابل الصحافة الثقافية هي التبعية لمؤسسات الدولة السلطوية التي تشل قدرتها على تقديم مواد صحفية جيدة تستطيع أن تستقطب القارئ من خلالها.

أما محمد صلاح العزب -أديب وصحفي بجريدة اليوم السابع قيد الإصدار- فيعيد أسباب فشل الصحافة الثقافية في مصر إلى كون أدائها غير مرضي لا للمثقفين ولا للجمهور العادي؛ فالقارئ العادي يعتبر الصفحة الثقافية مقطوعة من "الجرنان"، والمبدع يعتبرها سطحية، ولا يجد فيها ما يشجعه على متابعتها أو قراءتها.

مرجعا ذلك لكونها تكتب بلغة متعالية على القارئ العادي، وفي موضوعات غير مهمة بالنسبة له، كما أنها لا تتناول موضوعات جديدة أو مبهرة، وإنما أفكارًا مكررة ومستهلكة، كما أنها تستهدف شريحة محدودة جدا هي التي يكتب عنها فيها.

مصر.. عربياً

يواكب ذلك تراجع ملحوظ لدور مصر على الساحة الثقافية العربية التي لم تعرف سنوات ازدهار إلا في تجارب محدودة في فترة الخمسينيات والستينيات، كما جاء على لسان سيد محمود، مفسرا ذلك بأن حينها كانت الصحافة مرتبطة بمشروع سياسي؛ حيث كانت الدولة بعد ثورة يوليو عندها طموح إقليمي يتجاوز الحدود المصرية، وكان الانعكاس الثقافي هو امتداد للمشروع السياسي لعبد الناصر، والذي كان عنوانه الرئيسي قائما على "المجد وتقوية الدولة القومية" بغض النظر عن الاختلاف أو الاتفاق على إيجابيات أو سلبيات هذا المشروع.

واليوم تشهد مصر تراجعا ثقافيا مزريا بالتوازي مع تراجعها الإقليمي السياسي، ويضرب دكتور محمود خليل مثالا على ذلك بأن "مصر بها ثلث آثار العالم، وبرغم ذلك لا توجد فيها مجلة واحدة متخصصة عن الآثار، في الوقت الذي توجد فيه مجلات من هذا النوع في دول خليجية كالسعودية مثلا!!

ويضيف أنه بمقارنة عدد المجلات التي تصدر في مصر بالقياس مع بعض الدول العربية، نرى تفوق دول مثل الكويت والسعودية على مصر في هذا المجال، وأرجع ذلك إلى أن الدولة ليس عندها طموح أن تلعب دورا ثقافيا؛ لغياب المشروع الإستراتيجي، رغم أن الثقافة أحد أهم أدوات الدولة لتأكيد صورتها.

وأكد سيد محمود أن المشروع الثقافي مكلف، فضلا عن نخبويته، ولابد أن يكون وراء المؤسسة الثقافية داعم جيد للتكلفة العالية التي يتحملها المشروع الثقافي ومحدودية توزيعه، بمعنى آخر لابد أن تتواجد الدولة للقيام بالدور الخدمي، فالثقافة في الأساس خدمة، وهي عمل نخبوي وليست مشروعا مربحا.

الموضوع علي إسلام أون لاين

ليست هناك تعليقات: