الجمعة، 22 مايو 2009

التمويل والديون.. إمبراطورية تخلق أزمة



Image

كانت الولايات المتحدة الأمريكية القاطرة الأساسية التي ساقت العالم نحو تعميم النظام الرأسمالي خلال القرن الماضي، وأصبحت الآن تجره نحو الركود بفعل ما مر بها من انهيار اقتصادي، نتج بشكل أساسي من عمليات الاحتيال المنظمة والممنهجة قديما وحديثا، والتي مارستها النخب والإدارات الأمريكية لبناء منظومة " اقتصاد ورقي "، قائم على الديون بدلا من الاقتصاد الإنتاجي.

هكذا يرى الدكتور صلاح عبد الكريم في كتابه " الأزمة المالية الأمريكية العالمية ..مصيبة أم جريمة " الصادر حديثاً عن دار " سفير " الدولية، والذي يرصد من خلاله تاريخ هيمنة الولايات المتحدة على العالم اقتصادياً، والمنحني الذي مر به الإقتصاد الأمريكي حتى وصل إلي ما هو عليه، ويؤكد المؤلف على أن البحث عن حلول الأزمة من داخل سياق وجهة نظر الاقتصاد الغربية لن يسهم في إيجاد حلولٍ حقيقية لها.

الدولار والصعود الأمريكي

في البداية يستعرض الكاتب خروج الولايات المتحدة الأمريكية من الحرب العالمية الثانية كأكبر قوة اقتصادية في العالم نتيجة لعدم تأثرها بالخراب الذي حل بأوروبا واليابان، فكان إنتاجها الصناعي على سبيل المثال أكبر من ضعف الإنتاج السنوي لدول أوروبا واليابان مجتمعة، وبلغ احتياطيها من الذهب (26,5 بليون دولار، أي ما يعادل 65% من احتياطي العالم من الذهب)، وقد سهل لها نظام التجارة الحرة الحصول على المواد الخام اللازمة لإنتاج منتجاتها وتسويقها في بلدان العالم المختلفة، وكان عليها أن تعيد بناء أوروبا واليابان كي تجد سوقا لمنتجاتها، وبالفعل أطلقت مشروع "مارشال" لإعادة بناء أوروبا من جديد، ومشروعا مماثل لإعادة إعمار اليابان.

ولتستأثر بنصف ثروات العالم عملت على وضع خطة بعد الحرب العالمية الثانية للدفع لإنشاء الأمم المتحدة بدلا من عصبة الأمم (التي كانت تسيطر عليها بريطانيا)، وإنشاء منظمات اقتصادية كانت أدوات أمريكا للسيطرة الاقتصادية، أهم تلك المنظمات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، بالإضافة لتفعيل اتفاقيات تسيطر بها فعليا على السوق العالمي كاتفاقية "التجارة الحرة" واتفاقية "الجات".

ومن خلال هذه الاتفاقيات وتلك المنظمات فرضت أمريكا سياسات اقتصادية كانت أهم أحجار الزاوية في بناء وتشكيل "عالم الاقتصاد الجديد"، وأهم تلك السياسات أن يصير الدولار العملة التي يتم تقييم العملات بالنسبة إليها، وأن يصبح عملة احتياطي العالم، بحيث لا تتم كل المعاملات التجارية وعقد صفقات السلع الإستراتيجية - ويأتي على رأسها البترول - إلا بالدولار، وطبقا لاتفاقية "بريتون وودز" كان الدولار العملة الوحيدة التي يمكن تحويلها للذهب بسعر 35 دولارا للأوقية.

في ذاك الوقت كانت هناك حاجة ملحة من جانب كل دول العالم، خصوصا الصناعية منها، لزيادة احتياطيها من الدولار؛ لتمويل احتياجاتها من الطاقة والمصنوعات والسلع الاستهلاكية والمواد الخام، وبالتالي كانت كل دول العالم تفضل الاحتفاظ باحتياطيها الدولاري في صورة سندات الخزانة الأمريكية حتى أصبحت نيويورك بنك العالم بلا منازع، وصارت الإمبراطورية الأمريكية مؤسسة على الدولار والقوة العسكرية.

ثم وجهت الولايات المتحدة جهودها لمساعدة النظم الحليفة والمتعاونة معها لفتح أسواقها للمنتج الأمريكي، والحفاظ على هذه الدول كي لا تدخل تحت النفوذ السوفييتي السياسي والاقتصادي.

التدهور الأول

يشير الكاتب إلى أن التدهور الأول للاقتصاد الأمريكي بدأ في منتصف الخمسينيات من القرن العشرين بعد سلسلة من الحروب الإقليمية التي لم تتوقف، وذلك عندما تم التركيز على الإنتاج الصناعي الحربي على حساب الإنتاج الصناعي التقليدي المدني، بالإضافة لتعافي اقتصاديات كثير من دول الحلفاء - مثل ألمانيا واليابان - ومنافستهم للصناعة الأمريكية. ويذكر أن أول عجز تشهده أمريكا منذ الحرب العالمية تسببت فيه الإنفاقات العسكرية في فترة حرب فيتنام، وهو ما جعل الدولار مكشوفا، وجعل الدول تفضل عليه الذهب لأول مرة، وفي الستينيات زادت الأزمة مع تدهور الصناعة الأمريكية، وازدياد معدلات البطالة والركود، خصوصا مع ازدياد وتيرة الخسائر والإنفاقات التي لحقت بالجيش الأمريكي في الأراضي الفيتنامية.

وهكذا وبعد اضمحلال الاقتصاد الأمريكي الصناعي التقليدي حلت المؤسسات المالية الأمريكية في نيويورك (المتعاملة في السندات الأمريكية وغيرها من أدوات استثمار الفوائض التجارية للدول الأخرى في الأسواق الأمريكية) بالتدريج محل المؤسسات الصناعية كأكبر نشاط اقتصادي أمريكي، بل حل التوفير محل الإنتاج الفعلي للثروة الطبيعية، وتحولت القروض لتصبح قاطرة الاقتصاد الأمريكي، وتحول الاقتصاد الأمريكي إلى ما يمكن وصفه بـ"البالون المنتفخ"، وصار المعلم الأساسي للاقتصاد الأمريكي هو الديون والقروض وشغل المضاربات، أو ما يعرف "بالاقتصاد الورقي"، والهيمنة والاستيلاء على موارد اقتصاديات دول أخرى فيما عرف باسم "القرصنة" عن طريق فكي الكماشة "صندوق النقد" و "البنك الدولي".

صندوق النقد.. الاستعمار الجديد

ومع سبعينيات القرن الماضي ارتفعت أسعار البترول بنسبة 400%، فاضطرت بعدها معظم الدول النامية للاقتراض لتمويل وارداتها من البترول أو لتمويل عجزها التجاري، ويتم الاقتراض من بنوك أمريكية، والتي كانت تدير الأموال الفائضة عن بيع بترول دول الأوبك؛ حيث تقوم البنوك بأخذ هذه الأموال وتعيد إقراضها بفائدة متغيرة للدول الأخرى مثل الأرجنتين ومصر. واعتبر الكاتب أن أكبر عملية نهب في التاريخ حدثت في سنة 1979، حينما ارتفعت تكلفة القروض للدول المدينة بنسبة ثلاثة أضعاف من 7.6% إلى 21.5%؛ حيث قام "بول فولكر" رئيس البنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي بزيادة سعر الفائدة على الودائع الدولارية، وكانت النتيجة ارتفاع الفائدة على القروض الدولارية بنسبة 300%؛ لأن من شروطها أن تكون الفائدة متغيرة حسب ما يعلنه بنك الاحتياطي الفيدرالي.

وبعد أن فقدت الدول القدرة على سداد الديون جاء دور صندوق النقد الدولي كوكيل أمريكي لتحصيل الديون؛ ليفرض شروطه التي تتوزع بين خصخصة للمؤسسات الوطنية، وتخفيض الإنفاق الحكومي على التعليم والصحة، وخفض لقيمة العملة المحلية أمام الدولار بحجة أن تصبح منتجاتها منافسة في الأسواق، وبالتالي يستفيد المستثمر الأجنبي الذي سوف يحصل على المواد الخام بنصف الأسعار.

ثم يطالب الصندوق بفتح أسواق الدولة للاستثمار الأجنبي؛ حيث تُباع القطاعات الرئيسية بأرخص الأثمان للمستثمر الخارجي، وبعدها يفرض الصندوق بقية شروطه فيطلب من الحكومة المحلية تطبيق أسعار السوق برفع يدها عن دعم الغذاء والماء والطاقة، ويتم تفريغ البلدان التي قبلت بالتعاون تدريجيا إلى أن تجف آخر قطرة موارد فيها.

الطريق للأزمة

ويؤكد الدكتور عبد الكريم أن التدهور الاقتصادي الحادث في أمريكا لم يبدأ من اليوم، وإنما بدأ منذ وقت بعيد، منذ تضخم وتعملق الاقتصاد العسكري الأمريكي على حساب الاقتصاد المدني، بالإضافة لصعود اقتصاديات الحلفاء، وكذا الاقتصاد الصيني الذي لم يستطع البنك الدولي ولا الرأسمالية المتوحشة أن تنال منه كما نالت من غيره من بلدان أمريكا اللاتينية وبلدان جنوب شرق آسيا أو الشرق الوسط.

ومع ضمور الاقتصاد الصناعي الأمريكي كان الانتقال المستمر للمصانع الأمريكية للجنوب الفقير لرخص أسعار العمالة والمواد الخام وتقليل التكلفة، وبالتالي بدأت هجرة الاستثمارات الأمريكية إلى القطاع المالي (الاقتصاد الورقي)، وساهم ذلك في تدهور الإنتاج القومي الأمريكي، بل يصف المؤلف الانتعاش الذي شهده الاقتصاد الأمريكي عام 2001 بأنه لم يكن انتعاشا بقدر ما كان "فورة استهلاكية" مقابل رهن المنازل.

وقد داست النخبة الأمريكية العالمية -من رجال السياسة والمال والأعمال- بأقدامها على معاناة الشعوب الفقيرة، وازدادت مصالحهم مع الحروب والهيمنة؛ حيث قاموا بشن عمليات عسكرية هنا وهناك لفتح أسواق ومناطق اقتصادية جديدة، والاستيلاء على ثروات وموارد شعوب بأكملها بحجة السوق الحرة، والتدخل المخابراتي لإسقاط رؤساء جمهوريات رفضوا سياسة الخضوع للكاوبوي الأمريكي.. وأمثلة أمريكا الجنوبية خير شاهد.

إضافة للعمليات العسكرية كان التلاعب في أسعار البترول عن طريق الشركات الأنجلوأمريكية الضخمة، والمضاربات في البورصة، ورفع أسعار المواد الغذائية، وخفض لقيمة الدولار لتنخفض الديون الأمريكية للدول المدينة، كذلك زيادة الإعفاءات الضريبية على الأغنياء في مقابل إفقار الفقراء بزيادة الفائدة على القروض، وهي سياسة صريحة لليبراليين الجدد، وأخيرا التلاعب في البورصات والأسواق المالية وما عرف بـ"ثورة التوريق"، والحملة المنظمة لإعادة الاستيلاء على الفوائض النقدية من الآخرين بطريقة الفكر الليبرالي الدارويني للسوق الحرة.

ثورة التوريق

ويعتبر الكاتب أن عمليات التوريق والنصب التي اجتاحت كفيروس أغلبية المؤسسات النقدية والعقارية والتأمينية ومكاتب السمسرة الأمريكية ساهمت بقوة في الكشف عن قلب النظام المالي الأمريكي الحقيقي، ورفعت الستار عن البنوك الأمريكية التي تحولت من الإقراض التجاري إلى تجارة الأوراق المالية لتصبح "مؤسسات توريق".

ويوضح أن البنوك قامت بإقراض شركات الرهن عقاري، والتي بدورها قامت بعمل قروض ضخمة للعامة بدون أي ضمانات كافية، ثم تقوم البنوك بعمل "محافظ" من تلك القروض، وإصدار سندات ومشتقات بضمان تلك الديون، وبيعها بالجملة والقطاعي في صورة سندات وأسهم، ثم ضارب الجميع عليها، وانساق الجميع وراء شراء سندات الرهن العقاري التي تم التأمين عليها من قبل شركات أمنت على خطر عدم سداد تلك القروض، ثم حدثت "فقاعة الرهن العقاري"، وكانت كارثة الأزمة المالية التي تحولت الآن إلى أزمة اقتصادية تعصف بالجميع. فيقول الكاتب: "كانت العملية كلها تتم تحت إشراف كبرى المؤسسات المالية في وول ستريت، بحيث كونت تلك العصابات -البنوك وشركات الـتأمين والسمسرة والرهن العقاري- هرما ضخما من الأوراق المالية، قاموا ببيعها في أنحاء العالم، وقد تم ذلك بمباركة القيادة السياسية"، وفي النهاية توصل الكاتب إلى إن ما حدث يرقى إلى جريمة نصب على العالم.

عرض الكتاب علي إسلام أون لاين .

ليست هناك تعليقات: