الكتاب يقرأ ما يجري في العراق من خلال قراءة جيدة للتاريخ، فيُسقط ببراعة ما يُعانيه العراق اليوم على ما عاناه بالأمس؛ لأن بعضا مما يجري في المشهد العراقي إبان الاحتلال البريطاني للعراق في بداية القرن العشرين يتشابه بدرجة كبيرة مع المشهد العراقي تحت الاحتلال الأمريكي. فكلاهما كان في الربيع، وكلاهما كان فيه صراع بين قوتين رمزيتين "الخوذة والعمامة"، ومصالح إستراتيجية، وصراع على النفوذ السياسي والديني، يرافقه حُلم في تكوين دولة تضم طائفة عرقية أو أخرى تحتوي على مذهب ديني. ويلاحظ أن الكتاب الذي يضم خمسة فصول ناقش موقف المرجعية الشيعية فقط، مُهمشا الكلام عن موقف المرجعية السنية، ولعل ذلك يعود إلى أن المرجعية السنية تكونت حديثا بعد الاحتلال، والتي يفهم من ثنايا السطور في الكتاب وضوح موقفها، والتي أخذت منذ البداية مبادرة المقاومة، وجعلت من "إنهاء الاحتلال" رأس الأولويات. التاريخ العراقي.. التعاقب والتماثل السؤال المطروح في بداية الكتاب هو طبيعة العلاقة بين البنادق (الاحتلال الأمريكي) وما حدث للعراق من تداعيات كارثية على الدولة، وبين العمائم (علماء الدين) الذين أضحوا بعد الاحتلال القوة والمرجعية المسيطرة على الشارع الديني والسياسي، بل أصبحت العمائم ذات تأثير ونفوذ متغلغل داخل الأحزاب السياسية، ناهيك عن هيمنتها وارتباطها بالجماعات السياسية والمذهبية. يرى الكاتب أن الرواية هي هي بنفس أحداثها وبنفس السيناريو، وكأنها أعيد حكيها مع التغيير في بعض الشكليات لتناسب عهدا دون عهد، وزمنا دون زمن، نفس المواقف للأبطال (الأحفاد والأبناء) هي نفسها امتداد لمواقف الأبطال القدامى (الأجداد والآباء)، عاين العراقيون نفس المشهد الهوليودي المثير والغريب في احتلال بريطاني في ربيع عام 1917 واحتلال أنجلو- أمريكي في ربيع 2003، يأخذ الربيعي صورة من الماضي ليقارنها بأصل من الحاضر، الأبناء والأحفاد أعادوا أدوار الآباء الأجداد بنفس المواقف ونفس ردود الأفعال مع المحتل. فمن بين الواقفين بقوة على جبهة الشيعة مثلا، وبدلا من الخالصي الأب أو الجد اللذين اشتهرا بقوة موقفهما ضد المحتل، نجد الشيخ جواد الخالصي، يقول فاضل الربيعي: "برز إلى واجهة الأحداث الخالصي (الحفيد) الشيخ جواد ليواصل بشجاعة موقف والده وجده، وبدلا من الشيخ ضاري المحمود الطاهر شيخ عشائر زوبع برز حارث الضاري الحفيد، كما برز ولده مثنى؛ ليواصلا السير معا على خُطى الضاري الجد الصلبة والقوية، وبرز على الضفة الأخرى مع المحتل أُناس أعادوا أيضا أدوار الأجداد والآباء، فبدلا من جعفر بحر العلوم الذي اتهمه البريطانيون بالفساد المالي والاستيلاء على أموال الفقراء بالتحايل والتلاعب، كان هناك حفيد يُدعى إبراهيم، والذي سوف يشغل منصب وزير النفط، وبدلا من عبد الهادي الجلبي الوزير والسياسي الشيعي الليبرالي كان هناك ولده أحمد الجلبي السياسي الليبرالي وزعيم حركة المؤتمر الوطني العراقي، وهناك أيضا باقر وعبد العزيز ابنا محسن الحكيم، يُكررون نفس الأدوار والخطوات". أما على جبهة المرجعية في النجف فقد كان هناك متنافسون ومتزاحمون بالمناكب يواصلون الأدوار نفسها التي لعبها شيوخهم من علماء الدين ذات يوم في النجف أو في كربلاء، فظهر على المسرح -فجأة- علماء دين شيعة يتشبهون "بكاظم اليزدي" المرجع الشيعي الأعلى عام 1919؛ المعروف بصلاته المشبوهة مع البريطانيين. كما ظهر آخرون يتشبهون بخَصمه "الشيرازي" العالم والزعيم الشيعي الوطني البارز الذي فجر الثورة في إيران ضد الأسرة القاجارية من سامراء العراقية، ثم أفتى بالثورة على الاحتلال الإنجليزي عام 1920، وكتب رسائل إلى الزعيم السوفيتي "لينين" والرئيس الأمريكي "ودور ويلسن" طالب فيها بضمان استقلال العراق. العمائم.. وصراع النفوذ استعرض الربيعي موقف المرجعيات داخل بؤر الصراع في "العراق الجديد" -كما يحلو للأمريكيين تسميته تحت ظل الاحتلال- وهو ما أفرز قوى أخرى كانت موجودة تحت السطح، وسرعان ما صعدت وتمثلت في موجة جماهيرية هائلة توزعت على عدة مجموعات شيعية بارزة. فتيار الحوزة العلمية في النجف يقف دون ميليشيات مسلحة، ودون سيطرة سياسية على الشارع، ولكن قوته تُستمد في المقابل من الطاعة التقليدية للمرجعية، ولم تكن الحوزة في يوم ما لتطيق فكرة وجود مرجعية دينية سياسية أو ثقافية أو دينية موازية ومنافسة لها في الشارع الشيعي. ولذا -ومع السقوط المدوي لبغداد في إبريل 2003- وجدت الحوزة نفسها في موقف لا تُحسد عليه، حينما رأت نفسها وهي المرجعية الأم للشيعة في الشارع العراقي بل للتيارات السياسية الشيعية المختلفة وقد سُحب البساط من تحت قدميها، فالحزب الشيعي (حزب الدعوة) الذي رعت الحوزة ولادته لينافس الشيوعية والقومية العربية صار أحزابا وولاءات سياسية موزعة خارج حدود العراق؛ بل إن بعض الأحزاب كالمجلس الأعلى للثورة الإسلامية العراقي مثلا هو في عاطفته السياسية أقرب إلى "قم" الإيرانية المنافس التقليدي للمرجعية العراقية في النجف. اعتبر الربيعي أن التنافر بين الحوزة النجفية وكل من المجلس الأعلى للثورة الإسلامية وحزب الدعوة (وهما الحزبان الرئيسيان المؤلفان للائتلاف الشيعي القابض على السلطة) يرجع بشكل أساسي للتأثير الإيراني على الحزبين برغم خروج حزب الدعوة من رحم الحوزة النجفية. واستلهم الربيعي من التاريخ التأثير السياسي لإيران -الدولة وليست المذهب- على الشيعة في العراق، حينما استخدمت نفوذها داخل الجالية الفارسية في العراق، وتحديدا في النجف وكربلاء عام 1920؛ حيث أيدت إيران القاجارية (نسبة إلى الأسرة القاجارية التي حكمت إيران آنذاك) تيارا مواليا للاحتلال، وهو تيار المجتهدين، ضد تيار آخر كان يتزعمه آية الله الكاشاني الذي دعا من النجف إلى الثورة ضد الاحتلال البريطاني في عام 1920، وهو نفس الموقف الذي تفعله إيران الآن في دعمها لتيارين شيعيين يتحالفان بشكل سافر مع الاحتلال الأمريكي. ورأى الربيعي أن الحوزة في النجف بقيادة السيستاني تصرفت في الأشهر الأولى من سقوط بغداد بتعقل افتقدته الأحزاب الشيعية؛ وذلك حين تمسكت في يونيو 2003 -وبعد شهرين فقط من الاحتلال- بمطلب صياغة الدستور عبر جمعية تأسيسية منتخبة، لكن بدأ الموقف يأخذ منحنى غريبا حين تمسكت بمطلب الانتخابات العامة، ولم تشترط زوال الاحتلال. وبدأت المرجعية تحاول أن تأخذ لها مع المحتل وعلى الأرض دورا يساوي وزنها الديني الحقيقي، خصوصا في ظل احتواء الاحتلال لأشهر تيارين شيعيين (المجلس الأعلى، وحزب الدعوة العراقي)، وقبضهما على الأمور السياسية في العراق بمعاونة ومشاركة من المحتل الأمريكي بعد سقوط النظام العراقي السابق. ويلمح الكاتب إلى أن التظاهرات التي خرجت في يناير 2004 في البصرة والناصرية والكوت كانت بإيعاز من السيستاني، والتي نادت بتنظيم انتخابات عامة، وأنها لم تكن مصممة في الجوهر من أجل تصعيد المواجهة مع الاحتلال، بل لحسم توزيع الولاءات السياسية داخل الطائفة. فالمرجعية النجفية قررت حسم المعركة داخل الطائفة الشيعية، ولم تقرر قط حسم التناقض مع الاحتلال؛ وذلك بأخذ زمام المبادرة، وإعادة توحيد الطائفة حول مرجعية سياسية واحدة من خلال تهميش أدوار الأحزاب الدينية والميليشيات الأخرى، أو لفرض نوع من التناغم بين نشاط الأحزاب الدينية من جهة، وإستراتيجيات الحوزة من جهة أخرى. حوزة.. في قلب التنازع رأى الربيعي أن التاريخ يعيد نفسه دون أن تفقد وقائعه ما يلزمها من مسحة ساخرة، فالحوزة العلمية أصبحت في قلب تنازع شيعي- شيعي حول حزمة موضوعات ليس أقلها شأنا مسألة الدستور والموقف الفقهي من التعامل مع الاحتلال، وهو ما وفر جوا جيدا لمقتدى الصدر -زعيم التيار الصدري- للهجوم على الحوزة واصفا إياها بـ"الحوزة الصامتة"، وتخوينه الفريق الداعم للاحتلال من الحزبين الشيعيين الكبيرين أو فريق العلمانيين الشيعة. نستطيع أن نقول إن الحوزة قد وقفت بين موجتين هائلتين: الأولى: تتكون من جماعات مسلحة متنافسة تجمع بين التحالف مع الاحتلال، ومُعاداة المقاومة الوطنية، والترويج لشعار ينادي بمقاومة سلمية، بل -وفي غالب الأحيان- تناهض علنا أي شكل من أشكال المقاومة للاحتلال يمكن أن يبرز في صفوف الشيعة أنفسهم. الثانية: التيار الصدري الذي برز كقوة تعبر عن الشارع الشيعي في مواجهة الاحتلال، وحالة الرفض والاستنكار من التيارات الشيعية السياسية الموالية للاحتلال، والتي نقضت فكرة أن التشيع مفهوم مرادف للمقاومة ورفض الاستبداد. وقام التيار الصدري بحملة تشكيك هائلة ضد شرعية القيادة الدينية التقليدية وأهليتها (فيما يعرف ضمنا بالتنافس بين الحوزة الناطقة والحوزة الصامتة). وخصص الكاتب فصلا كاملا عن التيار الصدري، ظهر فيه إحساس يمزج بين الأمل والخوف، الأمل في أن يرى التيار الصدري تيارا شيعيا مقاوما قد يتحول إلى قوة تحررية حقيقية؛ حيث استطاع ذلك التيار أن يكسر طبيعة الشيعة السياسية أسيرة الرعاية الروحية للحوزة الدينية ومفاهيمها السلبية للعمل السياسي. ويؤكد الربيعي أن التيار الصدري قاد الحزب الديني من طور المجتمع الصغير -العقائدي والمغلق- إلى طور الكتلة الشعبية، ومن موضوعات الدفاع عن مصالح الطائفة إلى موضوعات الدفاع عن مصالح الشعب العراقي، وظهر ذلك في العمليات العسكرية ضد الاحتلال الأمريكي. فالتيار الصدري -حسب رأيه- هو الذي فضح التكتيكات والتحالفات التي أجرتها الأحزاب الشيعية التاريخية مع المحتل؛ حيث تحولت تلك الأحزاب إلى مُسوّق للاحتلال. وتخوّف الربيعي من تحول التيار الصدري الشعبي (حيث يتشكل غالبيته من الفقراء والمهمشين) إلى تيار آخر دموي يعمل على ترويع المجتمع، والقيام بأعمال العنف الطائفي، ووجود استغلال إيراني لقوة التيار الصدري باتجاه داخلي بتصعيد سياسة الثأر من حزب البعث، واتجاه خارجي من خلال تشجيع الصدريين على تنظيم مواجهات -مُسيطر عليها ومحدودة وفي أضيق نطاق ممكن- مع الأمريكيين والبريطانيين في مناطق البصرة والناصرية بهدف خلق معادلات جديدة تساعد على تحسين شروط التفاوض الإيرانية على البرنامج النووي مع الولايات المتحدة. ولعل هذا التوظيف يجعل التيار الصدري يتجرد من دوافعه الخالصة للمقاومة فيجرفها، ويحولها إلى بواعث ودوافع من نوع مختلف. وتحدث الكاتب عن عمليات مريعة وفظيعة تورط فيها التيار الصدري كإنشاء سجون ومعتقلات خاصة به، والنزوع في التطبيق المتزمت للشعائر والطقوس الخاصة بالشيعة، وهو ما يزيد الخوف من أن يتحول التيار الصدري -بدلا من أن يصبح قوة تحررية شيعية- إلى قوة أخرى تعمل على تدمير المجتمع العراقي وترويعه. |
تعليم الأطفال في اليابان..صناعة البشر
قبل 13 عامًا
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق