المسيري وبجواره أبو العلا ماضي |
حذر المفكر المصري د.عبد الوهاب المسيري من طوفان ما يسميه بـ"العلمانية الشاملة" وطغيانه في حياة الإنسان العربي، مشيرا إلى أنها تشكل خطرا على ثقافتنا وعاداتنا وتقاليدنا، وهو ما يتطلب التصدي له بكافة الوسائل حتى نحافظ على وجودنا وهويتنا.
وأكد د.المسيري أن الفكر الإسلامي في مرحلته الراهنة يشهد نضوجا وتطورا على مستويات التجديد والإبداع، والدليل ما يقدمه عدد كبير من المفكرين الإسلاميين في هذا الشأن، إلا أنه قال إن هذا لا يجد قبولا لدى العلمانيين ويتعاملون معه بالتجاهل، مبشرين الناس بجنة العلمانية المزعومة.
جاء ذلك في الندوة التي عقدها "حزب الوسط" تحت التأسيس في صالونه الشهري الأحد 9/12/2007 متناولا كتابه "العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة"، وموضحا الفرق بينهما، وأنه لا يعارض ما يسميه بـ"العلمانية الجزئية"، ولكنه يتخوف من مدى تأثير العلمانية الشاملة على المجتمع العربي على عدة مستويات الاجتماعي والسياسي والإيماني.
تناقضات العلمانيين العرب
بدأ الدكتور المسيري الحديث قائلاً: ثمة تناقضا يحيط بـ "مصطلح العلمانية"، فبعض المعاجم تعرف "العلمانية" بأنها فصل الدين عن الدولة، وأخرى ترى أنها لتأكيد فصل الزمن والجمال عن الدين والمقدس، وهناك كتاب لـ"بيتر جراي" بعنوان "فرويد اليهودي الملحد"، يقول فيه إن العلمانية هي الإلحاد، ورأي آخر يرى أن العلمانية هي "عدم الاهتمام بالأمور النهائية".
ويضيف: هناك تناقض كبير في تعريفات العلمانية لدى العلمانيين العرب، أمثال مراد وهبة وعزيز العظم وحسن صقر وفؤاد زكريا… إلخ، مراد وهبة يرى أن العلمانية: "هي الحديث عما هو نسبي"، أي أنه يؤمن بالنسبة. وعزيز العظم يتحدث عن أن العلمانية هي الضمير، ومحمد عابد الجابر يرى استبدال العلمانية بالعقلانية والديمقراطية، أما فؤاد زكريا وهو من أهم مفكري العلمانية فيرى أنها: "هيمنة القيم المادية"، في حين أن علمانية مصطفى كمال أتاتورك هي مرادف للتغريب والحداثة.
ويؤكد د.المسيري ان العلمانية ظهرت في الغرب كمصطلح في القرن التاسع عشر رافعة شعار فصل الدين عن الدولة، ومشكلة هذا التعريف أنه جزئي لا يتحدث عن حياة الإنسان "الميلاد الزواج والموت"، ولا عن القيم التي ندير بها حياتنا، أي أنه مجرد إجراءات فنية خاصة بالدولة سياسية واقتصادية، ولكن عندما تطورت الدولة وأصبحت كيانا مؤسسيا تعليميا وإعلاميا… إلخ، فالإعلام المرئي والذي تمتلكه الدولة اخترق حياة الإنسان الخاصة، وبظهور قطاعات أخرى تهيمن عليها الدولة أصبحت تتحكم في حياة الإنسان، وأصبح التعريف القديم غير موضوعي.
فصل الدين عن الدولة والحياة
ويطرح د.المسيري رؤيته لـ"العلمانية الجزئية" بأنها تعني فصل الدين عن الدولة (إداريا وسياسيا واقتصاديا)، ويقول: أنا كمسلم لا أجد غضاضة في قبولي بـ"العلمانية الجزئية"، ورسول الله - صلي الله عليه وسلم - في واقعة "تأبير النخيل" نصح الصحابة بشيء، وما حدث هو خلاف ما نصحهم به، وعندما تحدثوا معه قال: "أنتم أعلم بشئون دنياكم".
ويضيف المسيري: لا دين في الزراعة ولا دين في الإدارة، وكلها أمور قوانينها في النهاية فنية، وقد نقل عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - نظاما إداريا كاملا للدولة من الفرس "المجوس حينها"، وأنا كمفكر إسلامي لا أحب أن أرى شيوخا وقساوسة في وزارة الخارجية يتناقشون في موضوعات مثل استيراد السلاح أو الميزان التجاري… إلخ. ولكن تأتي أهمية الدين حينما نتكلم عن المرجعية النهائية للدولة، كالدستور مثلا والنظام الاجتماعي والقيم والأخلاق والحياة الاجتماعية.
وينتقل المسيري إلى تعريف "العلمانية الشاملة" ويقول: إنها لا تعنى بفصل الدين عن الدولة فقط، ولكنها تفصل كل القيم والأخلاق والدين عن مجمل حياة الإنسان العامة والخاصة، وحينما يتم فصل القيم وتنحيتها يتحول العالم لمادة استهلاكية وتنزع عنه القداسة، وأنا أعرف العلمانية الشاملة بأنها "نزع القداسة عن الإنسان والطبيعة"، والدليل على ذلك في أزمة الرسوم المسيئة للرسول في الدنمارك، وأيضا مهاجمة المسيح في أوروبا، السبب أنهم لا يدركون "المقدس"، والأمر نفسه في قضية المدرسة الإنجليزية في السودان التي أسمت كلبها "محمدا"، السبب أنها لم تدرك "القداسة"، ولكنها قد تدرك الذاتية والفردية، في الغرب مثلا يطلقون الحرية للشواذ جنسيا حفاظا على حقوقهم الفردية ومشاعرهم.
الإنسان قيمة استهلاكية
يرى د.المسيري أن الإنسان في العلمانية الشاملة أصبح قيمة استهلاكية، منتج ومستهلك، والعجائز والشيوخ والمعاقين في ظل العلمانية الشاملة ليست لهم قيمة فعلية لأنهم يستهلكون كثيرا ولا ينتجون، وأحد مفكري الغرب قال إنه لو تم التخلص من كبار السن والأطفال والعجزة فسوف يتم توفير عدة أطنان من المربى والحليب سنويا. فالإنسان والطبيعة يتحولان لمادة استهلاكية، قيمة فتاة الإعلان العارية ليس لها مقياس إلا جسدها الذي هو مادة استهلاكية فقط، في أمريكا مثلا هناك برامج كثيرة تبعث على الاشمئزاز تظهر حقارة ودناءة الإنسان وتجعله مادة استهلاكية بحتة، وهنا كل الأمور تصبح نسبية ويتساوى العدل والظلم والجميل والقبيح والجيد مثل السيئ، كلمة (JUDGMENTAL ) مثلا صارت كلمة سلبية ولا يمكن استعمالها للحكم على الأشياء (الخير - الحب - القرابة - التعاطف).
ويؤكد المسيري أن "العلمانية الشاملة" بهذا المعنى هي "الداروينية"، وسنكتشف أيضا أن "الإمبريالية" الاستعمارية هي الوجه الآخر لها، حيث حولت العالم كله خاصة العالم الفقير إلى مادة استهلاكية للعالم الغربي صاحب القوة النووية والقوة التكنولوجية القادر على فرض رأيه ورؤيته.
ويستطرد: الغرب يتحدث دائما عن العلمانية كثورة على فساد الكنيسة، وجعلنا نشعر أننا كدول عربية تعيش في نطاق العالم الثالث بعيدون عن تأثيرها، وهذا غير حقيقي لأن العلمانية الشاملة منظومة عالمية ضربت العالم غربه وشرقه، في العصور الوسطى كان هناك الاقتصاد الطبيعي ( تبادل السلع الاستهلاكية بقصد المنفعة، فالقمح للأكل مقابل القطن للكساء، الورق للكتابة مقابل العطور للتزين)، وعندما ظهر الاقتصاد الرأسمالي الذي هو انعكاس للعلمانية الشاملة أصبح هدفه الربح فقط، فظهرت المراعي في إنجلترا لإنتاج الصوف، ليس الهدف منها كسوة الإنسان ولكن الهدف "زيادة الربح".
ويضيف المسيري: المطلق في ظل اقتصاد العلمانية الشاملة ليس قيمة "التبادل بقصد المنفعة والعيش"، ولكن المطلق هنا هو الاقتصاد، والدولة هي المطلق في علمنة القطاع السياسي، والحكم على الدولة في ظل هذا الوضع يقاس بمدى نجاحها في أهدافها السياسية العليا، كل شيء أصبح مرجعية ذاته.
ويضرب مثالا على طغيان العلمانية الشاملة من الأدب قائلا: في العصر الرومانسي المعيار هو الخيال، وفي العقلانية المعيار هو العقل أما في العصر الحديث فالحكم على الجسد أصبح يتم بمعايير جسدية لا أخلاقية والجنس بمعايير جنسية لا قيمية ولا أخلاقية، وصار الدفاع عن الوطن والحروب ليس لأجل الأرض والعرض والدين، ولكن لأجل اغتنام حقل بترولي لزيادة الاستهلاك الغربي منه ونقص المخزون والاحتياطي العالمي وفتح سوق جديدة، وهو ما تمارسه الولايات المتحدة الأمريكية في العراق تحت شعارات زائفة كالديمقراطية والحفاظ على أمن العراق وحقوق المواطن العراقي.
عصر الجسد وفقدان القيم
جانب من الحضور في الصالون |
وأوضح د. المسيري انه على الرغم من أن الغرب هو أصل نشأة "العلمانية الشاملة" فإنها أصبحت مفهوما عالميا، فقد اكتسحت العالم بأسره شرقه وغربه، والغريب في الأمر أن العلمانيين العرب يسيرون وراء الوهم ويقولون إننا لا بد أن ندخل هذا النعيم (جنة العلمانية) متجاهلين الوجه المظلم القبيح لها الذي بلا شك يضر بالإنسان العربي والمسلم.
ويضرب المسيري مثالا للوجه القبيح للعلمانية الشاملة بقوله: "الطعام مثلا في الإطار التقليدي الأسري هو نوع من أنواع التراحم والجلوس لتبادل العواطف وخلق مودة، لكن المجتمع الغربي العلماني اعتبر الطعام بالمعنى المادي الخالي من القيمة، اعتبر الأكل فقط وسيلة للحصول على الطاقة (ماكدونالد، كنتاكي)، وصار الأكل فقط شكلا استهلاكيا، وقديما كان الفقهاء المسلمون لا يقبلون شهادة الرجل الذي يمشي في الشارع وهو يأكل، وهذه قيمة إسلامية جيدة.
ويضرب مثالا آخر قائلا: المرأة في ظل هذا الوضع لم تعد إنسانة ذات مشاعر وقيم وأحاسيس، بل أصبحت جسدا، سلعة تباع وتشترى وشكلا من أشكال الاستهلاك للإعلان (موديل جميلة بفستان قصير جدا تقف بجوار سيارة للإعلان عنها).
ويضيف: في عام 1965 حصلت ثورة في عالم الأزياء وتغير رداء المرأة من الميدي جيب إلى الميني جيب إلى الميكروجيب، الجسد أصبح مرجعية ذاته، تعرية الجسد أصبحت هدفا في حد ذاتها بعيدا عن العرى من أجل الجنس، ففي الغرب حتى ثلاث سنوات فقط كان كشف بطن المرأة في غاية العيب، أما اليوم فالنساء في أنحاء العالم الغربي وفي القنوات الفضائية العربية يتبارين في تعرية بطونهن.كما أن ظهور الأسرة التي تقوم على فرد واحد (single family ) يعد أحد تجليات العلمانية الشاملة.
مثال آخر في مصر وهو انتشار الوظائف المهمشة، قديما كانت مضيفة الطيران أو الراقصة أو الفنانة مثلا تقول على استحياء إنها تعمل "مضيفة أو راقصة"، الآن كل بنات الطبقة الوسطى يتمنين أن يكن مضيفات وراقصات في الملاهي الليلية ويلبسن الميدي أو الميني جيب، وقد قدمت في كتابي تشريحا لتسعة وعشرين مثالا لتبدي ظاهرة العلمانية الشاملة في المجتمع الشرقي.
الاختراق الأخلاقي
وعن مشكلة العلمانية الشاملة يقول المسيري إنها سحبت الأشياء من عالم الإنسان، ثم سحبت الإنسان وألقته في عالم الأشياء، فالعلمانية الشاملة تهتم بالظاهر لا بالباطن، ومن هنا تهتم لا بقيمة الإنسان أو عاطفته بل بكم سيدفع، ويتم تفسير سلوك الإنسان من خلال الجنس والأنزيمات والأعصاب وليس من خلال تأثيره القيمي والأخلاقي.
ويؤكد: مشكلة المسلمين أنهم تنبهوا للاختراق الأخلاقي ولم يتنبهوا للاختراق المعرفي، وهو ما يمكن أن نرصده في سلوكيات وتصرفات الناس وفي حياتهم اليومية، فأثناء إقامتي في السعودية سألت شابا عاش في ألمانيا 25 عاما عن رأيه في المصارعة الحرة، فقال: "الخطأ أنهم لا يرتدون الشورتات الشرعية". وإحدى المتسابقات في مسابقة ملكات الجمال كانت ترتدي البكيني قالت لها أمها وهي معها: "حينما تدخلين يا ابنتي ادخلي برجلك اليمنى واقرئي الفاتحة".
ويفسر المسيري هذا التناقض بأنه يعبر عن الوقوع في فخ الاختراق المعرفي، وعن الأزمة المعرفية لدى قطاع كبير من المواطنين في عالمنا الإسلامي.
الفكر الإسلامي ومؤامرة الصمت
ويؤكد الدكتور المسيري أنه ليس ضد التحديث أو التقدم أو العلمانية الجزئية، ولكنه ضد أن يتحول العالم لمادة استهلاكية، مؤكدا أهمية أن يعاد تعريف التقدم والتحديث بالطريقة التي تتناسب مع طريقتنا وطاقتنا وإمكانياتنا، فلا بد من مراجعة كاملة لما حولنا، وهذا ما أطرحه في كتابي "العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة".
وينتقل الدكتور المسيري في معرض تشريحه الحالة الراهنة التي يمر بها الفكر الإسلامي قائلا: الخطاب الإسلامي لم يتطور بما فيه الكفاية إلا مؤخرا، وكانت الساحة خالية للعلمانيين، الفكر الإسلامي يشهد حالة من الإبداع والنضوج والتجديد، وهو ما يتمثل في كتابات عدد من المفكرين الإسلاميين الذين استطاعوا أن يخوضوا بكتاباتهم في كافة المسائل الحياتية، فلم يعد الفكر الإسلامي عاجزا عن التعاطي مع مشاكل الإنسان المعاصر، ولكن ما يحدث هو أن هناك تجاهلا لهذه الكتابات من قبل مفكري العلمانية، وهو ما أسميه "مؤامرة الصمت"، وهو نفس ما يحدث مع كتاباتي عن العلمانية، فلا يوجد واحد من العلمانيين يمكنه أن يفند كتاباتي أو يرد عليها، ولكن هو فقط يتجاهلها، وهذا أيضا ما حدث مع موسوعتي "اليهود واليهودية والصهيونية"؛ لأن الصهاينة واليهود لم يستطيعوا أن يردوا عليها؛ لأنها ستفتح عليهم أبواب جهنم، وما فعلوه معها هو التجاهل.
وأنهي الدكتور المسيري حديثه مشيرا إلى أنه يجب ألا نقبل الأفكار الوافدة من الغرب على عواهنها، وإنما يجب إخضاعها للبحث والتفكيك بهدف إعادة البناء حسب الرؤية الإسلامية، وبالتالي إمكانية الدخول في حوار متكافئ مع الآخر، بحيث يكون لدينا موقف مختلف عن موقف الآخر وليس موقفا رافضا، وهو ما يمكن أن نسميه الإنسانية الإسلامية، أو الخطاب الإنساني ذا المرجعية الإسلامية.
الموضوع منشوراً علي إسلام أون لاين
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق