الثلاثاء، 17 نوفمبر 2009

التعصب الكروي.. صنم الإلهاء السياسي


أحمد عبد الحميد


Image

على غير عادة المذيع الجماهيري "عمرو أديب" في تصريحاته الصادمة التي دوما ما تثير الجدل، جاء التصريح الجديد - وإن كان مثيرا للجدل - دالا على انطباعات سلبية عن الشعوب العربية وعلاقتها ببعض، وهو ما لا يمكن تعميمه بطبيعة الحال.

"أديب" قال عبر نافذة برنامجه الجماهيري "القاهرة اليوم" إن الشعب الجزائري يكره المصريين، وأضاف إلى ذلك أن "الجزائريين كارهون ليس لمصر وحدها، وإنما لكل العرب"، وذلك على خلفية الجدل الحاد بين قطاعات عريضة من الشعبين في ظل المباراة المرتقبة بين المنتخبين المصري والجزائري في تصفيات بطولة كأس العالم (القاهرة 14/11/ 2009).

غير أن الصمت الذي رافق التصريح المثير مصريا رافقه حشد واستقطاب داخلي، وهو ما قوبل من وسائل الإعلام الجزائرية بالاستهجان والتصعيد، حيث وجهت الدعوة للأجهزة المصرية بقطع لسان "أديب" ليكون عبرة "للمنفلتين" الذين يبدو لبعض المراقبين أن مساحتهم لا تتوقف عند الألترس أو المتعصبين في المجال الرياضي.

إذا "الألترس" الرياضي ما هو إلا قمة جبل الجليد الذي يبرز لأسباب كثيرة، بعضها مرتبط بدراما مباريات كرة القدم تارة، وللدور الذي تلعبه هذه المباريات في تخليق انتصارات وهمية تارة أخرى، لكن حديث "الألترس" وقبل الفرح بانتصارات متمناه يحتم علينا البحث عن هزائم في أوطان رحبة ضاقت مساحاتها، وزاد التقوقع داخل مكونات مجتمعاتها.

لا حد للحصر

صحيح كان هناك مبادرات عدة من أجل محاولة الخلاص من الآثار السلبية المتوقعة، ليس من التصريح ذاته، بل من مشاعر غير إيجابية تجاه شعبين أثيرت على "شرف" مباراة مرتقبة بين جمهورين لدولتين عربيتين يجمعهما التاريخ والجغرافيا واللغة والدين أيضا.

الأمر بطبيعة الحال زاد وتضاعف، لكنه لا يتوقف على المشاعر التي أججها الحدث الرياضي، وإنما هي جزء من حرب ضروس تشهدها ساحة التعصب العربية إن جاز لنا القول، نكتشفه مرة من صراع المسلسلات السورية المصرية، وأخرى بين شابيِّن "متسكعين" في برنامج "ستار أكاديمي"، ومرة من خلال أغنية خليجية خرجت تسب في المصريين ليرد البعض المتعصبين من الطرف المشتوم بمثلها ويزيد، وليس انتهاء بين تيارات دينية تجد في منتديات الشبكة متنفسا للإفصاح عما تحمله بداخلها.

إذن موضوعات التعصب كثيرة تماما مثلما هي أسئلته، وربما لا حد لحصرها، وهو وإن اختلف الجميع على الأسباب نجد أن النتيجة واحدة؛ حيث لا يجد "الآخر" ركنا يأوي إليه بين مجتمعات كارهة للاختلاف والتنوع، وترى في التعددية وصمة عار، أو جريمة نكراء على أقل تقدير.

متعصب أم مشجع

من أين نبدأ إذن؟ هذا سؤال جوهري، وليكن مع فضيلة ما دمنا نتحدث عن رذيلة بإجماع ممارسيها حتى، كما يقال كل الفضائل تقع بين رذيلتين، وقياسا على ذلك وفي موضوع حديثنا الآن نجد فضيلة الانتماء لفكرة أو معتقد ما أو منتخب كروي يقع بين رذيلتي فقدان الهوية والتعصب.

من هنا يمكن طرح سؤال: كيف يمكن التعبير عن الانتماء الديني والفكري والسياسي، بل حتى الكروي دون أن تتحول القيمة الإيجابية إلى عامل هدم مجتمعي وشخصي، بل عامل تغذية للتعصب البغيض، ودون أن تتحول مباراة كرة قدم مثلا بين الجزائر ومصر إلى "مباراة الكراهية" كما وصفتها وروجت لها جريدة الجارديان البريطانية تعليقا على المناوشات الجماهيرية التي غذتها وشاركت في صنعها بعض وسائل الإعلام المصرية والجزائرية؟

باحث الاجتماع السياسي والمدير السابق لمركز التعددية بلندن الدكتور مصطفى عبد العال، يشير إلى أنه من الطبيعي أن يكون هناك مصالح متضاربة للناس؛ كل منهم يهوى وينتصر لشيء معين، وهو ما يسمى بالتدافع، وهو كما يقول جزء من الوجود الإنساني، وفي التدافع هناك من يكسب ومن يخسر، وهو سنة كونية يختلف تماما عن التعصب، والذي معه يتم إلغاء الآخر وإنكار وجوده، أو عدم أحقيته في حقوق الحياة كالتعصب الديني مثلا.

الباحث "جمال أسعد" يرى في التعصب حالة من التمترس والتخندق وراء فكرة أو عقيدة يؤمن بها المرء، معتقدا أن هذه الفكرة أو هذا المعتقد دون سواه هو الصواب، محتقرا ونافيا لإنسانية وحقوق غيره من أصحاب الأفكار والمعتقدات الأخرى الذين يعتقد أنهم خطأ جملة وتفصيلا، ومن هنا تنشأ فكرة التعصب التي تختلف عن فكرة "التمسك" والتي تعني الحب والانتماء لفكرة ما، مع احترام ما سواها.

إذن هل لنا في نموذج الفنانة الجزائرية "وردة" التي صرحت في حوار فني على إحدى الفضائيات أنها تتمنى فوز الجزائر على مصر في المباراة القادمة... ولكنها أردفت أنها ستشجع مصر في كأس العالم لو فازت على الجزائر، هل لنا في ذلك أسوة حسنة، يا رب.. يا رب.

غياب المشروع

إذن التعصب موجود، وهو كغيره من سلبيات مقيتة تولدت أو تفاقمت في وطننا العربي بالتوازي مع عصر "الدولة الحديثة" بحدودها الجغرافية، ومن بعدها تميُّع القضية القومية لتحل محلها قضايا أكثر اقترابا إلى القطرية، وغياب للمشروع القومي والوطني، ولوذ أبناء الدولة الواحدة بأوطان صغيرة يشعرون معها بالأمن النفسي والاجتماعي؛ حيث يهربون إلى أوطان افتراضية مجزأة تظهر مرة في صورة طائفة دينية، أو جماعة عرقية، أو يصغر هذا الوطن كثيرا ليصير فريق كرة قدم، كل ذلك بدلا من الوطن الكبير الذي تحلل وانتهى على الأقل معنويا.

عن ذلك يذكر "مصطفى عبد العال" أن تفكك الدولة وانحلالها وسقوط لوائها يجعل أبناءها يهرولون لمؤسسات أصغر حجما ينتمون إليها، ومن ثم يتعصبون لها ليشعروا بذواتهم، وانتماءاتهم الصغيرة، مرة عندما يخلق مشجعو الأهلي من "الأهلي" وطنا يسعدون بانتصاراته وتقدمه، وهو ما يعوضهم عن فشل الدولة وتأخرها.

ومرة أخرى كما يقول: "عندما انضوى الأقباط تحت لواء الكنيسة، عندما لم يجدوا دولة ترعاهم، فاحتضنتهم كنيسة توفر لهم الانتماء في بلد لا يجد فيها المرء الانتماء".

"جمال أسعد" بدوره يرى أن أهم سبب أودى بالشارع المصري إلى حافة "هاوية التعصب" هو غياب المشروع القومي الذي يعمل على جمع كل الفئات المصرية وراء "يافطة" وراية واحدة، وأن غياب التواصل حول الهوية المصرية ممثلة في المشروع والموقف والرمز أدى إلى تشظٍّ في المجموع المصري، وانقسام على نفسه، وتحول المشروع الكبير إلى مشروعات خاصة، وانتماءات أكثر خصوصية.

ووافقهما الكاتب والباحث الفلسطيني عبد القادر ياسين، والذي رأى أن التعصب ظهر في العالم العربي حينما انتهى الانتماء القومي إلى انتماء ديني وقطري واللذين ينتهيان بدورهما إلى التعصب الجهوي، ثم التعصب العائلي، فالتعصب للأسرة، ومنها إلى الفردانية والأنانية.

انحطاط ثقافي

بينما كان للشاعر السعدني السلاموني رأي في ظهور ثقافة التعصب؛ حيث أشار إلى أن التعصب في مصر والعالم العربي ليس مرتبطا بالعلم والجهل بقدر ارتباطه بالضغط الناتج عن الحالة الاقتصادية المتدهورة، والفساد السياسي، والانحطاط الثقافي والعلمي الذي تمر به أغلب الأقطار العربية.

الباحث والصحفي ممدوح الشيخ سكرتير تحرير مجلة الوطن العربي اللبنانية، رأى أن التعصب يجد تربة جيدة عندما يفقد الشعب الفرصة في إظهار طاقته ومشاعره الوجدانية بشكل إيجابي، بسبب "فشل سياسي"، أو تشوه في "البنية الثقافية" أو إحساس بالتمزق، أو عدم التكيف مع الأوضاع السلبية، عندها -كما يقول ممدوح- "يقوم بتحويل هذه الطاقة الشعورية إلى إحساس بالكره والغضب ضد طرف آخر، وكأن هناك من يحفر مجرى لتدفن فيه هذه المشاعر باتجاه محدد سلفا".

دور خبيث

واستكمالا للحديث كان لابد من العودة إلى حيث البداية، فهل فعلا يكره الجزائريون المصريين أو العكس، أم أن وسائل الإعلام على اختلافها تشارك في صناعة ذلك؟

المؤسسة الإعلامية التي كانت في قلب الهجوم في المعركة الأخيرة مصريا وجزائريا على خلفية المباراة الموعودة وصفها الدكتور عبد العال بالخبيثة، وأضاف: "الفضائيات تشارك بدور خبيث ومدروس لتنفيس الغضب الجماهيري في قضايا فرعية مثل: قضايا النقاب، ومباريات كرة القدم، وبناء أو هدم كنيسة، وإلهاء العقل الجمعي عن قضايا أهم وأولى كقضايا الحريات والفساد والحقوق السياسية وغيرها".

بينما أشار المدون والناشط السياسي "مصطفى النجار" إلى أن الإعلام يأخذ نماذج متطرفة ويربطها بالمجموع الشعبي أو يحولها إلى صراعات وحرب دبلوماسية، وأن الإعلام، من وجهة نظره، سواء المصري أو الجزائري في المعركة المحتدمة إعلاميا بسبب المباراة، ساهم بشكل سلبي في تأجيج صراع التعصب الأعمى، في مخالفة صريحة لمواثيق العمل الصحفي التي تلزم بعدم نشر أي مواد تحض على كراهية وتحقير الشعوب.

التحقيق علي إسلام أون لاين.

ليست هناك تعليقات: