لا أدري لماذا قفز هذا المشهد إلى ذاكرتي وأنا أمسك بجهاز "الريموت كنترول" في أول أيام رمضان أثناء تقليب القنوات التي صارت تربو على الـ400 قناة بقمر فضائي واحد، لمشاهدة بعض الأعمال الدرامية، لأفاجأ بعدها بتيار جارف من المسلسلات، وثلاثة أضعافها من البرامج، أما عن الإعلانات فحدث ولا حرج، لآخذ قرارا بعدها بمقاطعة هذه "الكائنات الفضائية".. على الأقل حتى إشعار آخر. آراء من استطلعنا رأيهم من النقاد والمثقفين والمبدعين صبت في هذا الاتجاه، والذين رأوا أن ما يحدث الآن بالقنوات الفضائية لا يخرج عن إطار حملة منظمة من شركات الإعلانات لربط المنظومة الفنية بأكملها بـ"سوق الإعلانات"، يساندها في ذلك حكومات عربية تعمل على إيجاد حالة من "الإلهاء الفني"؛ تمهيدا لإخصاء ما تبقى من وعي في الشارع العربي. كعكة الإعلانات الناقد المتخصص في اقتصاديات الفن السيد السعيد، بدأ كلامه ساخرا مستدعيا مقولة أحد المخرجين العرب الخليجيين: "العرب لا تحتاج لا إلى السينما التقليدية، ولا إلى السينما المتطورة، وحرام رمضان بدون مسلسلات"، حيث هاجم السعيد هذا الإغراق الدرامي والذي اعتبره محاولة لاجتذاب الجمهور العربي بعيدا عن مشاكله السياسية والاجتماعية. ويشير السعيد إلى أن هذا التنافس المغلف بإطار الازدهار الدرامي يحكمه بالأساس بعدان أحدهما اقتصادي؛ وهو التنافس على كعكة الإعلانات والتي يعد شهر رمضان هو الموسم الرئيسي لها، ومن ثم يتم إنفاق مئات الملايين من الدولارات لترويج سلع تافهة تعزز من تأصيل قيم المنظومة الاستهلاكية لدى المشاهد العربي، والتي تصب في النهاية -من وجهة نظره- لصالح مجموعة من الرأسماليين وأصحاب المصالح. يضيف السعيد قائلا: "تقف شركات الإعلانات بشكل أساسي وراء عملية إيجاد هذا العدد الكبير من الأعمال الدرامية المسلوقة، والتي تخلو من أي محتوى ثقافي أو تاريخي أو فني يمكن ترويجه، الموجود فقط هو لخلق مساحة ما يمكن من خلالها إيجاد سوق إعلاني قوي، وبالتالي فسوق الدراما صارت مرتبطة بشكل مباشر بهذه السوق، لدرجة أنه يتم الاتفاق مع صناع المسلسل قبل نزوله على نسبة معينة من حجم الإعلانات لوضعها في ميزانية المسلسل، خصوصا مع ارتفاع أجور الممثلين بشكل فج". الوعي العربي البعد الآخر كما يقول السعيد، هو البعد الأيديولوجي؛ حيث تعمل المؤسسات الرسمية وبقوة على دعم الدراما، ليس لأجل صناعة دراما حقيقية، وإنما لخلق مساحة من التواجد على الساحة الإعلامية والثقافية؛ لتصبح بديلا عن المساحات السياسية التي انسحبت منها أو التي غطتها باستبدادها، إضافة لعمل تعبئة للجمهور العربي لإلهائه بكم كبير من مسلسلات تناقش مشاكل ساذجة، والعمل على إيجاد خريطة ضخمة من برامج المقالب والمسابقات تشارك في عملية وأد الوعي العربي. شاركه في الرأي الفنان عبد العزيز مخيون، الذي هاجم بشدة المعروض حاليا على القنوات المصرية أو القنوات الفضائية سواءً دراما أو برامج، والتي اعتبرها مصنوعات إعلانية وليست فنية، مقاييسها بالأساس مقاييس عمل إعلاني خاضع بشكل رئيسي لتحكمات إمبراطوريات شركات الإعلان الممول الرئيسي لهذه الأعمال. وأشار مخيون إلى أن القنوات المتخصصة في الدراما لو تم فصل الارتباط الإعلاني عنها فستغلق مباشرة، كما أن هذا العدد الكبير من الأعمال الدرامية الذي يناقش قضايا هامشية وسطحية -من وجهة نظره- يتنافى مع رسالة الفن التوعوية والتثقيفية. الأمر الآخر الذي يضيفه مخيون: أن الحكومات العربية تقوم بدعم هذا الاتجاه؛ لأنه كما يقول: "يساهم بشكل كبير في محو الذاكرة الجمعية للأمة، ويعمل على تسطيح وعي الناس؛ وهو ما يصب في مصلحة الأنظمة بالمنطقة". تشبع درامي واعتبرت ماجدة موريس الناقدة الفنية التضخم الموجود الآن في الأعمال الدرامية المصرية نتيجة طبيعية لما حدث في السنوات الأخيرة من ترد نوعي وكمي في الدراما المصرية؛ حيث تشير ماجدة موريس إلى أن مصر كانت في البداية هي رائدة صناعة الدراما إنتاجا وتمثيلا وإخراجا، ثم تراجع الدور الإنتاجي لصالح رءوس الأموال العربية التي كانت تنتج المسلسلات المصرية وتأخذ الفريق الفني بأكمله من مصر، ثم تقدمت الدراما السورية، وفضل الخليج نوعا ما بعدها الدراما السورية على الدراما المصرية. بعدها -كما تقول ماجدة موريس- تم المزج بين الدراما السورية والمصرية من ناحية الإنتاج، والاستعانة بممثلين أو مخرجين من هنا ومن هناك، وإن ظل الدعم الخليجي للدراما السورية ظاهرا بشكل كبير. وتقول ماجدة موريس: "منذ ثلاث سنوات صارت المسألة معقدة؛ حيث بدأ في الخليج اتجاه لصناعة دراما خليجية تعبر عن الخليج بمشاكله وقضاياه، تصنع بواسطة فنانيه ومخرجيه، وصار المعروض في الخليج الآن أغلبه خليجي، ومعه على الجوار السوري والمصري، وبالتالي ظهر هذا الكم الضخم من الأعمال الدرامية العربية المتنوعة الذي نراه على القنوات الفضائية، ووصلت بعدها سوق الدراما إلى حالة تشبع". هذا التشبع الدرامي الذي تتحدث عنه ماجدة موريس جعلها حتى وهي الناقدة الفنية التي لابد أن تشاهد أكبر كم من الأعمال لنقدها والكتابة عنها، لا تستطيع أن تتابع عمليا سوى ثمانية أعمال درامية من مجمل ستين عملا دراميا معروضا على الفضائيات والقنوات التلفزيونية الأرضية في شهر رمضان. تلفت ماجدة النظر إلى أن هذه الكثرة من الأعمال الدرامية المصرية والسورية أوجد ركودا في توزيعها، خصوصا مع اتجاه المال الخليجي إلى سوقه الأصلي؛ مما جعل الدولة سواء في سوريا أو مصر تتدخل لشراء المسلسلات التي لم تستطع أن تسوق نفسها، وضربت ماجدة موريس مثالا بما حدث منذ سنتين حينما تدخل الرئيس الأسد بنفسه لجعل التلفزيون السوري يشتري 45 عملا دراميا، ومن هنا -والكلام لماجدة موريس- يظهر الصراع الموجود الآن على الساحة الفضائية لأعمال درامية كل منها يسعى لفرض وجوده، واحتلال مساحة ما لدى المشاهد العربي. سلاح ذو حدين من وجهة نظر ماجدة موريس فإن وجود هذا الكم من الأعمال الدرامية سلاح ذو حدين؛ فمن ناحية يجعلها تدخل في إطار حسبة "السوق" الذي يطرد غالبا السيئ والرديء، ويعطي مساحة كبيرة لمجموعة من المخرجين والممثلين وكتاب السيناريو الجدد، إضافة إلى أن ما يطرح في العمل الدرامي يكشف وبقوة نوعية الأفكار السائدة لدى المشتغلين بالفن في العالم العربي، ومدى التزام هذا الكاتب أو ذاك بالأفكار التي تعبر عن قضايا ومشاكل مجتمعه من عدمه. لكن من ناحية أخرى ترى ماجدة موريس أن السلبية التي قد تتواجد من وجود هذا الكم الضخم من الأعمال هي حدوث بلبلة كما هو الحادث الآن، واحتمالية وجود ركود في توزيع الأعمال الدرامية. حالة تشوش أما المُنتج السينمائي هاني جرجس فوزي، فتحدث ضاحكا أنه مصاب ببلبلة منذ بداية الشهر، وأن رمضان هذا العام هو الشهر الوحيد خلال سنوات طويلة الذي لم يستطع فيه -لأول مرة- أن يتابع مسلسلا دراميا واحدا؛ نتيجة لتشوشه من وجود هذا العدد الكبير، سواء من المسلسلات، أو القنوات، أو البرامج، أو الإعلانات؛ وهو ما جعله يتابع فقط البرامج الخفيفة، وتأجيل متابعة الدراما إلى ما بعد رمضان. هاني جرجس أشار إلى أنه يتوقع خلال الفترة القادمة أن يحدث اتجاه عام لدى النجوم من الممثلين بعدم عرض أعمالهم مرة أخرى خلال شهر رمضان على الأقل لعدة مواسم قادمة؛ نتيجة لهذه "الزحمة الدرامية" التي لن يستطيع أحد متابعة الأعمال فيها بشكل جيد خلال شهر الصيام بخلاف ما كان يحدث في الماضي، إضافة لدخول منافس قوي وهو مسلسلات "السيت كوم" والبرامج الخفيفة والكوميدية. سلق المسلسلات كاتب الخيال العلمي، ورئيس رابطة كتاب الخيال العلمي العرب رؤوف وصفي، أشار إلى أن الأعمال الدرامية المقدمة حاليا في رمضان خالية من البنية الهيكلية للحبكة الدرامية المعروفة، وأنها تعتمد إلى حد كبير على استدرار دموع المشاهدين بقضايا -كما يصفها- تافهة وساذجة. ويشير رؤوف وصفي إلى أن الأمر ساهم في صنعه مجموعة من ورش كتابة السيناريو عديمة الخبرة والكفاءة، والتي تعمل بسرعة على "سلق" مسلسل لسد حاجة السوق الإعلانية والذي ساهم في رفع أسعار أجور الممثلين، لتصل لـ6 ملايين جنيه مصري للممثل النجم، والغرابة -كما يقول رؤوف- أن النجم الذي يتقاضي هذا الأجر هو نفسه النجم الذي يمثل أحيانا دور رجل كادح في منطقة شعبية أو عشوائية بالكاد يحصل على لقمة عيشه |
السبت، 12 سبتمبر 2009
نقاد ساخرين: "حرام رمضان بدون مسلسلات"!!
القدس بين نداءات المثقفين.. وغياب السلاطين
| ||
وسط حشد كبير من كتاب مصر والشخصيات العامة احتفل أمس الثلاثاء الثامن من أغسطس 2009 اتحاد الكتاب مصر بالقدس بمناسبة اختيارها عاصمة للثقافة العربية لعام 2009 في مؤتمره العام والذي سيقيمه ثلاثة أيام تنتهي يوم الخميس العاشر من أغسطس القادم، حيث جاءت الاحتفالية والتي نظمت تحت عنوان "القدس وثقافة المقاومة" بمثابة عرس خطابي للقدس شارك فيه مجموعة كبيرة من كُتّاب وأدباء وباحثين عرب. حيث اهتز الحضور لكلمة الأديب المصري بهاء طاهر، والذي تحدث عن أن المرحلة التي سبقت صلاح الدين الأيوبي، كانت "مرحلة مظلمة" غارقة في التطبيع بين الصليبيين المحتلين للمدينة وبين الأمراء العرب الذين ترأسوا عروش الممالك والإمارات العربية حينها، وأن تفرقهم وتشرذمهم ساعد بشكل كبير الاحتلال الصليبي للقدس والذي استمر لفترة اقتربت من التسعين عاماً، وكان أكبر إنجاز تقوم به الممالك العربية حينها هو "دق الأسافين" فيما بينها للحفاظ على كراسي ملوكها وعروشهم. وأشار طاهر إلى أن الزمان يعيد دورته مرة أخرى، فيصبح الذي مضى معادًا ومكررًا بنفس الصورة بأحداثها وصورها وأشخاصها، ولتصبح العروس المغتصبة من أهلها، وغير القادرين على استردادها، واسترداد شرفها هي بذاتها نفس العروس، تغيرت التواريخ والأرقام، ولكن لم تتغير المشاهد والفصول المأساوية. ايقاظ الوعي وبعينين تكادا أن تدمعا هجا بهاء التفرق العربي، معتبرًا أن الإنجاز الحقيقي الذي قام به صلاح الدين الأيوبي؛ هو في لمّ هذا الشعث المتفرق بين الممالك والإمارات العربية حينها، حيث كانت الخطوة الأولى نحو تحرير القدس، هو تحرير الأوطان العربية من حولها من عناصر التفرق والتشرذم، فخاض صلاح الدين معركة وحدة، قبل أن يخوض معركة تحرير وتحرر. يضيف طاهر: "تحرير القدس واستعادة الحق تتطلب منا القضاء على عوامل الضعف بداخلنا، والقضاء على التطبيع مع العدو، والوحدة، وكلها عوامل يجب أن نكملها قبل أن نخوض حرب التحرير النهائية". وحتى لا يتحول المؤتمر لجعجعة خطابية كما يقول طاهر، اعتبر أن دور الكتاب والأدباء والباحثين هو في تأهيل الشارع ثقافيًّا وتوعويًّا، وتأهيلهم للمعركة التي لا يمكن خوضها إلا بعملية "إيقاظ وعي" يتم الإدراك من خلالها أين تكمن مظاهر الخلل، وكيف ولماذا يتم خوض هذه المعركة الفاصلة حتى لا يتم استغلال الشعوب من قبل مجموعة من المرتزقة. محمد سلماوي رئيس اتحاد كتاب مصر والعرب أكد أن اتحاد الكتاب العرب رفض المشاركة في الاحتفالات التي تجرى بالقدس المحتلة، وقرر أن يعقد كل اتحاد احتفالاته الخاصة بالقدس في كل قطر عربي، مشيرًا إلى أن الحق لا يضيع شريطة أن تظل القضية في الوجدان، وهو دور الكتاب والمثقفين. نبش قبر صلاح الدين فيما ألقى كلمة الأدباء العرب السفير محمد صبيح الأمين العام المساعد للجامعة العربية لشئون فلسطين والأراضي العربية المحتلة كشف فيها عن أن إسرائيل تحفر تحت مقابر المسلمين في فلسطين والتي يوجد من بينها قبر صلاح الدين، وأن القدس تتعرض لأكبر حملة في التاريخ لتزييف أزقتها وشوارعها ومقدساتها وحجارتها ويجرون الحفر تحت مبانيها وبيت المقدس وكنيسة القيامة. وتساءل صبيح: "أين المال العربي لحماية القدس؟ وأين السياسة العربية والإسلامية لتكون القدس على رأس الأولويات من خلال مؤسساتنا واتحاداتنا ونقاباتنا؟". الشاعر المتوكل طه ألقى كلمة فلسطين وأشار فيها إلى إن إسرائيل تخلق في فلسطين زمنين الأول فلسطيني متخلف محاصر بفعل القتل والحواجز، والثاني إسرائيلي حداثي قاتل من هذه الدولة التي صارت أكبر من القانون الدولي كله. وأضاف قائلاً: "نحن الفلسطينيين إذا حاولنا المقاومة يمارسون معنا القتل والعنف حتى يطالبنا الجميع بالاستلام، وأنهم يقضون على خططنا الوطنية ويقدمون لنا خططهم "الفاشلة" لنقبلها ونخيط أكفاننا بأيدينا". ووصف "طه" المفاوضات بأنها لا طائل منها؛ لأنها بلا سقف ولا ضمانات مطلقا، وأنه لا فرق بين اليمين واليسار الإسرائيلي، وأن العرب لا يفعلون أي شيء سوى التسول والتوسل، في الوقت الذي استطاع المحتل الإسرائيلي تسويق مفهومه حول الاحتلال وإعطائه الشرعية. معركة قانونية فيما كانت كلمة الدكتور مفيد شهاب، وزير شئون مجلسي الشعب والشورى والتي كانت بعنوان "القدس في القانون الدولي" مركزة على أهمية الاستعانة بالمنهجية القانونية بجانب دعاوى التحرير والمقاومة، واعتبر أن أولى محاولات التشكيك في أحقية الوطن العربي في القدس هي في الادعاء بعدم جدوى الأسانيد القانونية في الدفاع عن القضية، معتبراً أن البعد القانوني لقضية القدس يؤكد شرعية الحق العربي، وأن الدفاع القدس يبدأ من التصدي لمحاولات الاحتلال الأجنبي طمس الهوية العربية، عن طريق تزييف الحقائق التاريخية، والتشكيك في العقيدة، ومحاولات التحايل على الحق القانوني العربي، من خلال التقليل من مبادئ القانون الدولي أو محاولة إضفاء أمر واقع تعقبه شرعية قانونية للاحتلال الإسرائيلي للمدينة. فيما أشار شهاب إلى أن الاحتلال طوال معاركه مع العرب، كان يستند فيها أمام العالم بحجج قانونية حتى يكتسب دعمًا، ويبرر عدوانه، ويقوم بتلميع صورته أمام العالم. ومن هنا يقول شهاب: "إذا كانت إسرائيل وهي الظالمة والدولة المحتلة تستند في احتلالها وعدوانها على تبريرات قانونية، فالأولى لنا نحن أصحاب القضية وأصحاب الحق أن ندفع لأن تكون معركتنا وفق قواعد اللعبة". |
عم صبري: لا لشنطة رمضان.. أهلاً بالتعاونيات
يبدو أنها تيمة للرجل أن تنبهر كلما جلست معه تتحدث عن مشروعاته، حيث تكتشف كل يوم أنه يعمل في شيء جديد ومختلف في العمل الخيري، عم صبري عبد العال الذي عرضنا تجربته من قبل على صفحات موقعنا الذي يعمل في مجال القروض الحسنة متناهية الصغر، التي يوفرها للمحتاجين في مختلف أنحاء القطر المصري، يعف بها أيديهم عن السؤال، عاودنا نسأله عما يفعل في رمضان من أفكار مختلفة للعمل الخيري. توقعت في البداية أن يتنازل هذا الرجل في شهر رمضان عن عادة "القروض الحسنة"، فرمضان كالمعهود هو شهر الصدقات والخير والإحسان، ولكن الرجل أومأ إلي عابسا عندما تحدثت معه في ذلك، وعاتبني بأن هذا ليس المقصود فقط من وصايا القرآن والسنة، وأنه فهم خاطئ وقع أغلب الناس فيه. حدثني عم صبري بأنه لا يقوم في رمضان سوى بالقروض الحسنة للفقراء، ويزيد عليهافقط
يشير لي عم صبري أن هذه الفكرة اقتبسها من قرية بريطانية اسمها "روتشديل"، واجهت تقلبات وارتفاعا بالأسعار أثناء الثورة الصناعية في بريطانيا، حيث يحكي بشكل ينم عن ثقافة كبيرة استغربتها من رجل لم يُتم أكثر من التعليم الثانوي، أن صناعة النسيج حتى أربعينيات القرن التاسع عشر كانت تعتمد على العمل اليدوي، لكن بعد اختراع جيمس وات الآلة البخارية، وتفجر الثورة الصناعية، استغنى كثير من أصحاب المصانع خصوصا في منطقة يوركشاير البريطانية عن آلاف العمال الذين تشردوا، وبعدها اتسعت الفجوة بشكل كبير بين الأغنياء والفقراء. يكمل عم صبري محدثا عن أن الأغنياء قاموا بعملية رفع أسعار المواد الغذائية بشكل كبير بعد الثورة الصناعية مستغلين توسع السوق حتى لو على حساب الفقراء، ومن هنا فكر مجموعة من أهالي قرية روتشديل في مواجهة هذا العبء المتزايد، بإنشاء جمعية يقصدها الأهالي لشراء كميات ضخمة من المواد الغذائية بثمن الجملة، وبعدها تقوم الجمعية الأهلية بتوزيعها على الأهالي بنفس السعر الذي تم به الشراء. يضيف قائلا: "كان من الروح الطيبة الموجودة بقرية روتشديل أنهم لكي يوفروا أجرة مسئول المخزن وأجرة المحاسب، قاموا بإعطاء مفتاح لكل صاحب بيت في القرية، وأجَّروا مخزنا وضعوا فيه بضاعتهم، وكلما احتاج أحد من أهل القرية شيئا ذهب ليأخذ حاجته ويضع المال، ويقوم بنفسه بكتابة كمية ما أخذه في دفتر الحسابات في شكل أخلاقي". أشار عم صبري إلى أن الفكرة انتشرت بعدها في أنحاء بريطانيا، وبعدها في أوروبا وأمريكا لتكون هذه أول تجربة تعاونية في العالم، تأسست على فكرتها اتحاد التعاونيات العالمي. دوامة الاستهلاك مشى عم صبري سبعيني العمر وهو يتكئ على عصاه الصغيرة مشيرا إلى زينة رمضان الجديدة التي تملأ الشوارع والحارات الشعبية، وقد تحولت إلى إعلانات لمجموعة كبيرة من شركات السمن والزيت ومساحيق غسيل الأطباق على شكل "فوانيس" ورقية معلقة بالطول والعرض على امتداد الشارع ثم ابتسم قائلا: "من الطبيعي أن يكون رمضان شهر التقشف والزهد والعبادة، وهو المراد من الصيام، جعلوه هم شهر الأكل والاستهلاك الزائد عن الحد، وأبعدوه عن روح الإسلام وقيمه الأصيلة". يقول بأسف: "بسبب هذا الكم الكبير من الاستهلاك، وهذا الضغط المادي لا أدري كيف تستطيع أسرة موظف بسيط أن تتحمل كل هذه الأعباء، صرنا لأول مرة نسمع عن حالات انتحار لأب أو أم يعولان أسرًا؛ بسبب عدم القدرة على تحمل مصاريف البيت، خصوصا في رمضان ومواسم الدراسة والأعياد". ويشير عم صبري إلى أن الحالة الاقتصادية لكثير من المصريين صارت سيئة، وأن الأزمة الاقتصادية الطاحنة أضرت الناس بشكل كبير، لذا فهو يرى أن هذه الأزمة لا يصلح معها أن نلتفت للفقراء شهرا معينا في السنة، أو في المواسم والأعياد فقط، بل الحل من وجهة نظره مشروعات تدعم الناس طوال السنة، وتكفيهم عن السؤال والحاجة قائلا: "من الخطأ أن نملأ بطون الفقراء شهرا، ثم نتركهم جوعى طوال العام يسألون القاصي والداني". بنك الطعام .. بيزنس الأغنياء تطرق الكلام مع صبري إلى المشروعات التي تقوم بإطعام الفقراء خلال شهر رمضان ومنها مشروع "بنك الطعام"، حيث هاجم عم صبري هذا المسار بشدة، واعتبره ليس أكثر من شكل إعلامي لتلميع الأغنياء ورجال الأعمال الذين ينفقون الآلاف في هذه الجمعيات، ثم يقومون بعد ذلك برفع أسعار السلع التي ينتجونها ويصنعونها، طبعا كل ذلك بعد أن يكون قد تم إبرازهم وتلميعهم بشكل جيد، كما يقول. ويضيف: "رجال الأعمال هؤلاء إذا دخلوا جمعية خيرية أفسدوها، فهم يأخذون باليمين أضعاف ما أعطوه بالشمال، ينفق رجل الأعمال مثلا في الوجبات التي تقدم في بنك الفقراء مليون جنيه، وبعد التلميع والظهور في وسائل الإعلام يرفع سعر كيلو الأرز ليكسب 20 مليون جنيه". مصلحة الفقراء عم صبري ينتقد رجال الأعمال الذين يتجهون لعمل الخير السهل التقليدي الذي يترك لهم ذكرا بين الناس بدون أي تنمية مجتمعية حقيقية، وينعي عليهم استغلالهم حتى لأعمال الخير التي يقومون بها، فيقول: "لست في حاجة إلى أن أذكرك أن هؤلاء يستفيدون من هذه الأعمال مرتين، مرة عند استغلالها دعائيًّا، وأخرى عندما يضعونها في دفاتر شركاتهم لخصمها من الضرائب". ويرى عم صبري أنهم لو كانوا يريدون مصلحة الفقراء حقيقة لقاموا بعمل مشاريع صغيرة وكبيرة تستوعب الآلاف من العاطلين المساكين الذين يستجدون الجمعيات الخيرية، ولقاموا ببناء المساكن الشعبية رخيصة الثمن بدلا من عشش الصفيح التي يقطنونها، أو القصور والشاليهات ونوادي الجولف التي تؤخذ من أرض الدولة ومالها، وتؤخذ من حقوق فقرائها وكادحيها!! |